تأتي مدينة تعز في صدارة المدن اليمنية التي فقدت طوال الحرب خيرة نخبها روّضت بشاعة الحرب تصورات اليمنيين عن الموت، فبفعل التكرار الرتيب لمشاهد القتل اليومية، وهم يشيعون، بين يوم وآخر، ضحاياهم، فَقَدَ الموت في مخيال اليمنيين هالته القديمة، لكن مقتل شخصٍ في ظرف الحرب، وبما يمثله من قيم إنسانية واجتماعية قد يكسر رتابة إيقاع الموت في وعي اليمنيين، فقد يختزل بتكثيفه معنى الخسارة تاريخَ الحرب الطويلة في اليمن، بمفارقاتها وفداحتها. أعاد مقتل الشابة اليمنية، الناشطة الإغاثية والمدافعة عن حقوق الإنسان، ريهام البدر الذبحاني (32 عاماً)، الموت إلى أذهان اليمنيين حقيقة مؤلمة، لا يمكن التصالح مع خسائرها، ليزيد من سخطهم على أطراف الصراع اليمنية وحلفائهم الإقليميين الذين حولوا اليمن محرقة لأبنائها، والغضب من حربٍ ظالمةٍ فقدوا فيها وما زالوا يفقدون خيرة أبنائهم، ليعيد مقتل ريهام بفظاعته إلى ذاكرة اليمنيين كلفة النزيف اليومي على حاضر بلادهم ومستقبلها، وهم يخسرون، في حرب عبثية وبلا طائل، كل ما هو جميل وإنساني ونقي في حياتهم.
في الذاكرة الحية لأبناء مدينة تعز، ارتبطت الإعلانات الموسمية لقيادة التحالف العربي بدءها عملية تحرير المدينة بتحول مدينتهم إلى ساحة مفتوحة للموت القادم من قذائف مليشيات الحوثي وقنّاصتها، لكن أكثر من أحلام تحرير مدينة تعز التي يتم إجهاضها بفعل الأجندات الإماراتية – السعودية، فقد ارتبط في ذاكرة أبناء المدينة ترافق عمليات التحرير بمقتل كثيرين من النشطاء والإعلاميين والصحافيين والمدافعين عن حقوق الإنسان بقناصة الحوثيين وقذائفهم. وبالتالي، لم تخرج العملية التي أطلقتها أخيراً قيادة التحالف العربي، في بداية العام الحالي، لتحرير مدينة تعز من المليشيات، عن السياقات السياسية والعسكرية والإعلامية لعمليات التحرير السابقة، عدا بالطبع عن تكثيف المليشيات لاستهدافها المدنيين بشكل عام، والصحافيين والنشطاء بشكل خاص، فقد قتلت المليشيات الصحافي الشاب محمد القدسي بقذيفة في أثناء
“رصدت الضحايا في تعز، لتتحول هي نفسها، وفي مفارقةٍ محزنةٍ لا تحدث سوى في تعز، إلى ضحية” تغطيته المعارك، لتقنص المليشيات، بعد أيام، الصحافي والناشط الإغاثي، أسامة سلام. وفي الثامن من فبراير/ شباط الحالي، استهدفت مليشيات الحوثي الجبهة الشرقية بقذيفة عشوائية لتقتل الناشطة ريهام البدر، وكذلك زميلها مؤمن الشرعبي، لتفقد أسرة ريهام ابنتها الوحيدة، بعد عام من مقتل أخيها على يد المليشيات، ولتنضم ريهام ورفيقها مؤمن إلى قافلة طويلة من الضحايا المدنيين، فيما تستمر لامبالاة السعودية والإمارات بأوجاع مدينةٍ منهكةٍ بالحرب والحصار وخذلانات التحرير.
تأتي مدينة تعز في صدارة المدن اليمنية التي فقدت طوال الحرب خيرة نخبها، جرّاء استهدافهم المباشر من المليشيات، وإنْ لا يخرج استهداف الحوثيين الإعلاميين والنشطاء في مدينة تعز عن السلوك التقليدي للجماعات المتمرّدة التي تتعمد خرق قوانين الحرب، بتقصد قتل المدنيين في تعز، إضافة إلى سعيها إلى إفراغ المدينة من النخب الشبابية المؤثرة في المشهد المحلي، وذلك بتنكيلها بالإعلاميين والحقوقيين الذين ينقلون جرائمهم للعالم، إما باعتقالهم أو بتصفيتهم في أثناء أدائهم مهامهم في الجبهات. وفي حين حاولت مليشيات الحوثي التنصل من مسؤوليتها القانونية حيال قتلها الإعلاميين والنشطاء في مدينة تعز، فإن قتلها ريهام وزميلها مؤمن الشرعبي كرّس حقيقة حرص المليشيات على استهداف الإعلاميين والحقوقيين لكل من يحاول تجاهل ذلك. كما سلط مقتلهما الضوء مرة أخرى على الكلفة الباهظة التي دفعتها تعز، باعتبارها مدينة فجرت الثورة، ثم مدينة نكبتها أطراف الحرب وحلفاؤهم، بتحويلها إلى جغرافيا لاستنزاف الفرقاء والحلفاء والخصوم. كما كشف مقتل ريهام وزميلها، وهما يقومان بإغاثة الأسر المحاصرة شرق المدينة، عن البيئة الصعبة واللا إنسانية التي يعمل فيها نشطاء مدينة تعز وإعلاميوها، من دون وسائل حماية، معرّضين أرواحهم للخطر.
تقيس المجتمعات في الحروب كلفة خسائرها الفادحة بخسارة نخبها الفاعلة في تلك اللحظات الفارقة في تاريخها، ما يشكل خسارة لحاضرها وأيضاً لمستقبلها. ومثّل مقتل الناشطة ريهام البدر خسارة مركبة للمجتمع اليمني، إذ كانت حالةً مغايرةً للنخب الشابة التي أنضجتها ثورة فبراير، بمواقفها السياسية المنسجمة مع أهداف الثورة، وكذلك في تعاطيها المتوازن مع متغيرات ما بعد الثورة، إضافة إلى رفضها التسويات السياسية التي التفت على الثورة، بما في ذلك تدجين شباب الثورة من خلال الوظيفة ومناصب الدولة، لتشكل ريهام قطيعة حقيقية مع النخب الحزبية الشبابية المتهافتة على الاستحقاقات السياسية.
في الثورة، كما الحرب، اختارت ريهام وبعض رفاقها الطريق الصعب، وذلك بالانحياز التام لخيار مقاومة المليشيات في مدينة تعز، على الرغم من إدراكهم فساد فصائل المقاومة واقتتالها على الغنائم أكثر من إيمانها بقضية تحرير المدينة، واقتناعهم بأن السعودية والإمارات تحرصان على إعاقة تحرير المدينة، فإن ريهام شقت طريقاً مختلفاً، بتجاهل السياق السياسي في مقابل تكريس نشاطها في المسار الإنساني، فقد أسست مع نشطاء آخرين مبادرة “حبي لها”، وهي مبادرة شبابية اجتماعية، لتشكل تجربة إنسانية رائدة في مدينة تعز طوال الحرب، إذ أخذت ريهام ورفاقها على عاتقهم أولاً كسر الحصار الذي فرضته مليشيات الحوثي والقوات التابعة للرئيس السابق، علي عبدالله صالح، على مدينة تعز، لتقطع ريهام ورفاقها رحلات يومية مجتازين ممرات جبلية كممر طالوق في جبل صبر للالتفاف على الثكنة العسكرية في منفذ
“تأتي مدينة تعز في صدارة المدن اليمنية التي فقدت طوال الحرب خيرة نخبها” الدحي، حاملين “اسطوانات الأوكسجين” لتوفير ما تحتاجه مستشفيات المدينة. وبعد تحرير المقاومة منفذ الدحي، حصرت ريهام ورفاقها جهودهم الإنسانية داخل المدينة المحاصرة، وذلك بتوزيع المواد الغذائية والعلاجية على الأسر المحتاجة، متجاوزين بنشاطهم الإنساني المنظمات الإغاثية الحكومية في تعز، والمنظمات الحزبية الرديفة للحكومة التي ثبت فسادها وتربحها على حساب معاناة اليمنيين، بما في ذلك توزيع الإغاثة بمقتضى العلاقات الحزبية والمحسوبية، فإن مبادرة ريهام ورفاقها كانت بجهود شخصية من دون أي تمويل، وأثبتت نزاهتها بتوزيع المواد الإنسانية على المحتاجين، من دون أي تحيزات، الأمر الذي كرّس في قلوب أبناء المدينة تقديراً عالياً لجهود ريهام ورفقائها. إضافة إلى جهودها الإنسانية، عملت ريهام راصدة في اللجنة الوطنية للتحقيق في ادّعاءات انتهاكات حقوق الإنسان في اليمن، ورصدت الضحايا في تعز، لتتحول هي نفسها، وفي مفارقةٍ محزنةٍ لا تحدث سوى في مدينة تعز، إلى ضحية، لتشكل ريهام خسارةً مضاعفةً على الصعيد الإغاثي والحقوقي اليمني.
في بيئةٍ غير آمنة، مهددة للحياة، يعمل الحقوقيون والنشطاء والإعلاميون في اليمن طوال الحرب، متحولين إلى الهدف الأسهل للقتل بالنسبة لأطراف الصراع اليمنية، فيما يتنصل القتلة من إيغالهم في دماء اليمنيين، يكتفي الطرف الآخر باستثمار دمائهم في معركتها غير الأخلاقية لتجييش فكرة استمرار الحرب، من دون حتى تعويض أسرهم الفقيرة عن فقدانها عائلها الوحيد، لكن اليمنيين البسطاء، البعيدين عن مكر أطراف الصراع، لا ينسون أبداً الأنقياء من أبنائهم، إذ تكثف صورة مدينة خرجت لتلقي الوداع الأخير على ريهام البدر الحب اللا مشروط، لتخلد ريهام، في ذاكرة المدينة وأهلها البسطاء، يداً حنونة ضمدت جراحهم وأوجاعهم في ليل ظلامهم الطويل.
نقلا عن العربي الجديد