فالفيلسوف ابن رشد كان يرى أن أفعال الإنسان ليست جبرية تماماً وليست اختيارية تماماً لكنها تجمع بين الجبر والاختيار.. فهو يميز بين عالمين هما:
علم الله وحرية اختيارنا:
في المقال السابق حاولت الإجابة بشكل مختصر على ما هو القضاء وما هو القدر، وهي رؤية لا تتوافق تماما مع ما جاء في التراث بالنسبة للمصطلحين، وإن كانت تقترب في روحها مما قاله ابن رشد ومحمد عبده.
فالفيلسوف ابن رشد كان يرى أن أفعال الإنسان ليست جبرية تماماً وليست اختيارية تماماً لكنها تجمع بين الجبر والاختيار.. فهو يميز بين عالمين هما:
1- عالم الإرادة الداخلي: وهذا متروك أمره للإنسان يختار فيه ما شاء من أفعال بحرية تامة في حدود الأسباب المقدرة سلفاً.
2- عالم الإرادة الخارجي: وهو عبارة عن الأسباب والعوائق والظروف التي قدرها الله على العباد جميعاً وهى تسير وفق نظام محكم ومقدر سلفاً. اهـ
فابن رشد ربط بين ما يصدر عن عالمنا الداخلي من أفعال وعالم الأسباب والظروف الخارجية بقوله “إن أفعالنا لا تتم ولا تتواجد إلا بتوافقها مع الأسباب الخارجية”.
فهو يرى أن ارتباط عالم الإرادة الداخلي بعالم الإرادة الخارجي يحققان حرية الإنسان دون تعارض مع القدر.
وما ذهب له الإمام محمد عبده قريب مما ذهب له ابن رشد، فهو يرى أن حرية الإنسان ليست مطلقة وإنما محدودة ومتناهية وذلك بشهادة العقل أيضاً لأن الإنسان كم يختار من أفعال بحرية تامة ويشعر أن هناك إرادة أخرى أو قوة أخرى تحيط به وتحد من حريته وقدرته والحرية المطلقة تتحقق فقط في الذات الإلهية.
وما قلته في مقالي السابق يتوافق مع روح ما قالاه عن القضاء والقدر..
لكن تولد سؤال آخر من سؤال التخيير والتسيير وهو: هل تتعارض صفة العلم الإلهي وحرية اختيارنا؟ كيف يكون الله عالما بأفعالي وأكون حرا في نفس الوقت؟ ألا يفيد علمه سبحانه الجبرية في أفعالنا ؟
للإجابة على هذه الأسئلة دعوني أنقلكم لحوار قصير جدا اختزل جملا تعبر عن أهم نظريتين فيزيائيتين في القرن العشرين.
عندما سمع أينشتاين (صاحب النظرية النسبية) عن ميكانيكا الكم وعن أنها علم قائم على الاحتمالات قال كلمته المشهورة (الله لا يلعب النرد God doesn’t play dice). الله يعلم بالضبط أي إلكترون سيعبر وأي إلكترون سيتوقف، هو لا يتعامل بالاحتمالات. هنا رد عليه هيزنبرج، أحد أشهر علماء ميكانيكا الكم، و صاحب مبدأ عدم اليقين، قائلاً (ربما هو بالفعل يلعب بالنرد Maybe he does).
فأينشتاين كان يؤمن بفكرة النظرية الموحدة، و كان يكن احتراما خاصاً لماكسويل بسبب إسهامه في تحويل هذا الحلم إلي حقيقة، ونسبية أينشتاين نفسها كانت إضافة لهذا الحلم لأنها ربطت الجاذبية بالزمن وبينت كيف أن الزمن يمكن أن يتسارع في مناطق الجاذبية الشديدة مثل تلك الموجودة في الثقوب السوداء.
ومع أني مؤمن بما قاله إينشتاين بأن الله لا يلعب النرد، لكني في نفس مؤمن بما وصلت له نظرية الكم من عدم قدرتنا للوصول لمعرفة القانون الكامل الموحد للكون، وعدم معرفتنا أو عدم قدرتنا كبشر للوصول لذلك القانون لا يعني أنه غير موجود.. وكأن نظرية الكم جاءت -بعد الميكانيكا والنسبية- لتقول لذلك الإنسان الذي ظن أنه اقترب من اكتشاف القانون الموحد للكون لن تستطيع وصوله أو لازال بعيدا عنك، لقد كاد بعض العلماء في منتصف القرن التاسع عشر أن يعلنها صراحة: وصلنا لاكتشاف سر الكون كله فلا إله وراءه ومن ثم فنحن الإلهة، فكانت نظرية الكم صادمة لهم.. وهذا الحوار بين الامبراطور الفرنسي نابليون وبين عالم الفيزياء والفلك الفرنسي سيمون لابلاس يكثف تلك الصورة التي وصل لها بعض العلماء من غرور العلم. قال له نابليون: كتب نيوتن عن الإله في كتاباته، لكني لا أرى في فرضياتك إشارة ولو لمرة واحدة لمكانة الإله في خلق الكون؟!. أجابه لابلاس: لم أحتج لتلك الفرضية يا سيدي..
وبما أن نظريتي النسبية والكم كلاهما لديهما قدرة تفسيرية كبيرة في تفسير الكون ولا زال علم الفيزياء يعتمدهما رغم تعارضهما الظاهري، فإني أرى أن الأولى ستجيب على من يرى الحرية ولا يرى التسيير، والثانية ستجيب على من يرى التسيير ولا يرى الحرية.. فأنا مع أينشتاين أن الله لا يلعب النرد ومع هيزنبرغ بأن هناك احتمالات لا نستطيع تحديد واحد منها من قبل، وما حصل لكلاهما هو أنهم لم يصلوا لتفسير نهائي للكون يجمع النظريتين، لكن ما لا يستطيعه البشر النسبي يستطيعه المطلق خالق القوانين والسنن.
والآن لتقريب الصورة للإجابة على السؤال المهم أعلاه سأضرب مثالا يساعد على تقريب الصورة وإزالة التعارض بين علم الله وحرية إرادتنا.
للنرد ستة أوجه، وحينما نقذفه في الهواء ثم يرتطم بالأرض لا نعلم تحديدا على أي وجه سيقع، واحتمالاتنا بمعرفة النتيجة لا تتجاوز 16.66بالمئة، لأن الاحتمالات ستة فقط، وكلما زادت الاحتمالات قلت النسبة، فإذا كانت الاحتمالات 100 احتمال فإن معرفتنا لن تتجاوز 1بالمئة، وهكذا.
لكن كم ستكون معرفتنا بنتيجة النرد بعد أن نقوم بعمل معادلات فيزيائية معقدة، ونضع النرد على آلة ترميه بقوة مضبوطة، وسرعة مضبوطة وفي اتجاه أقوم بتحديده عن طريق إعداد الآلة مسبقا..الخ.. بحيث أعرف كل القوانين التي تؤثر في قذفه وارتفاعه ودورانه وسقوطه وارتطامه والهواء والريح وكل ما يتعلق به من قوانين وصلت إليها.. أظن أن احتمال معرفتي بسقوط النرد ستكون 100بالمئة أو قريبا منها، بحسب معرفتي للقوانين المؤثرة فيه، فإن علمتها كلها عرفت النتيجة بنسبة 100بالمئة، وإن نقص علي قانونا نقصت النسبة وهكذا..
وهكذا أكون قد عرفت عن طريق تلك الحسابات المعقدة بما سيقع في المستقبل لهذا النرد وعلى أي وجه سيكون.. أما بدون تلك الحسابات فإن احتمالي لن يتجاوز 16.66 بالمئة، وهي النسبة الطبيعية لعدد الأوجه.
فإذا كنا قد استطعنا أن نفهم نتيجة النرد بمعرفتنا قوانينه كاملة، فإن لله المثل الأعلى فهو يعلم كل قوانين الكون وما فيه مخلوقات، وبالتالي فهو يعلم مستقبلنا كاملا دون أن تتعارض مع حرية إرادتنا..
وما يحصل للنرد هو ما يحصل للإنسان، فالإنسان يختار أحد الأقدار المبثوثة في الكون والذي يقوده لاختيار آخر وهكذا، ومع كل اختيار تكون هناك احتمالات كثيرة لا ندركها كلها وإن أدركنا بالمعرفة جزءا بسيطا منها، فلا زال الكثير مما لا نعلمه “وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا” (الإسراء:85) فهذه العلوم التي تراكمت في عشرات الآلاف أو مئات الآلاف من الكتب لا زالت قليلة مما في الكون من أقدار وسنن، ولما كان الله وحده هو من يعلم كل الاحتمالات لكل فعل ويعلم كل القوانين المؤثرة في ذلك الفعل الذي اخترناه، فإنه يعلم مستقبلنا دون أن يرغمنا أو يجبرنا على أي فعل، ولكن لأنه حكيم وعليم ورحيم فإن الأفعال لا تتساوى عنده تماما، إذ تختلف الأقدار من بيئة لأخرى، تلك الأقدار المؤثرة في أفعالنا، فيحاسبنا على درجات الحرية عندنا مما تيسر لنا، وهذا هو معنى أن من سرق لجوع في عام الرمادة غير من سرق ليكنز، فهذا المفهوم العمري انطلق من فهم تلك الأقدار التي لم تساو تماما بين حريتنا في السرقتين.. وحتى لو تساوت البيئات التي نعيش فيها فلا يعني أن أقدرانا التي بنُيت على اختياراتنا ستكون متساوية، لأن هناك ما لا نعلمه من السنن التي أثرت فيها، فلو افترضنا أن توأمين ولدا من رحم واحد، وعاشا في بيئة واحدة، واختارا نفس الفعل فإن ذلك قد يعني تقارب نتيجتهما ولكن لا بالضرورة أن تكون نتيجتهما واحدة جزما، لأن هناك أقدار لا نعلمها تدخلت في اختيار كل منهما.
ولأننا نتعامل مع الظاهر فقط أو بالأصح مع ما نعلمه في حياتنا الدنيا فإننا نجتهد ما استطعنا في تحري العدل، أما العدل المطلق فلا يكون إلا عند عالم الأقدار كلها، وهذا هو ما أفهمه من معنى الميزان الدقيق في الآخرة عند قوله تعالى: “وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ (الأنبياء:47)، وقوله تعالى: “وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ” (الأعراف:8-9)، وقوله تعالى :”فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ” (الزلزلة:7-8).
ولا أفهم العدل والقسط وهذا الجزء الدقيق من مثقال الذرة وحبة الخردل إلا أن كل فعل عمله الإنسان عند وزنه لن يكون مجردا من كل القوانين التي أثرت فيه، بل سيحسب كل صغيرة وكبيرة، مما فيه من اختيار ومما فيه من تسيير، بل من كرمه سبحانه أن ضاعف الحسنة، فلا يعذب إلا من غلبت سيئاته رغم مضاعفة حسناته. يقول سبحانه: “إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا” (النساء:40).
والخلاصة أن الله سبحانه هو وحده من يطلع على خريطة القوانين والسنن كاملة وحده، ومن ثم يعلم بمستقبلنا، أما نحن فنسبيون ومهما اكتشفنا من قوانين فلا نصل لإدراكها جميعا، وإنما نتفاضل فقط فيمن يعلم من الاحتمالات والقوانين أكثر، فيكون اختياره وقضاؤه أكثر حكمة..
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.