صبيحة الحادي والعشرين من مايو العام الماضي، التقيت به ولأول مرة، وهناك كانت لحظات تعارفنا الأول والأوثق.
صبيحة الحادي والعشرين من مايو العام الماضي، التقيت به ولأول مرة، وهناك كانت لحظات تعارفنا الأول والأوثق.
كان لمركز الدراسات والإعلام الاقتصادي الدور الأهم الذي مثَّل سبب اللقاء والتعارف، حين اختارنا ومعنا 20 زميل وزميلة آخرين للمشاركة في دورة “الصحافة الحساسة للنزاعات”، التي عقدها في مدينة تعز.
يبدو أن محمد كان أحد الأنقياء خُلقا وتعاملا وسريرةً من كثيرين تعرفت إليهم خلال فترة الحرب، وغالباً يذهبُ الطيبون مبكرا ودون سابق إنذار، وفي مقابل ذلك يقول المثل الشعبي “عمر الشقي باقي”.
لا أنكر هنا أن زميلي العزيز محمد القدسي، كان أكثر تواصلا بي، مني، في العادة يلاحظ مروري في الشارع العام ويصرخ فجأة “يا صهيبي”، ألتفت يمينا ويسارا فأجد محمد، أذهب إليه مسرعا وأصافحه وأرحب بقدومه إلى المدينة التي كان يأتيها زائرا بين الحين والآخر نظرا لعمله التلفزيوني بعيدا عنا، وتحديدا في ريف تعز.
ذهب محمد وترك ندبة في القلب، حزنا وكمدا عليه، لقد أصبحت قلوبنا ممتلئة بالندوب أصلا، محمد هو الندبة السابعة، هل بإمكان الأيام ومستجدات الأحداث أن تمحيها أو تزيل ألمها، لتخففها على الأقل… لا أظن ذلك..
هل باستطاعتنا اليوم أن نجري عملية جرد حساب لضحايا الصورة والكلمة في تعز، الذين قطفت الحرب أرواحهم وهم في ريعان شبابهم وسنوات تفتحهم.
لقد كانت الحرب قاسية جدا عليهم، لكنهم كانوا أكثر سخاءً وكرما تجاه مدينتهم والناس، وقدموا أرواحهم رخيصة وهم يوثقون لحظات الحقيقة وينقلونها للناس، بعيدا عن إعلام التضليل والزيف الذي لايحترم عقلا ولا بشرا.
لازلنا نتذكر جيدا – وبحسرة – أكثرنا نشاطا وإخلاصا اليمني محمد، خفيف الظل والصادق الشيباني أحمد، أجملنا أواب الزبيري، وأصغرنا تقي الحذيفي، ملح أيامنا وضحكاتها وائل العبسي، ومع الأخيرَينْ ذهب أيضا محمد النظاري، وختاما أحد أنقياء هذه المدينة “القدسي محمد”.
هل خافت الحرب ومجرميها من بهاء الابتسامات وأصوات الضحكات التي كان يطلقها هؤلاء السبعة، وقررت على الفور طمسها وختم حياة أصحابها، وبهذه الصورة المفزعة والأكثر ألما على أرواحنا وأرواح وقلوب أهليهم و أحبائهم وأصدقائهم وكل من عرفهم أو سمع عنهم، أو رأى لهم حتى صورة واحدة.
ستظل أرواحنا قوية لأجلكم، وعلى ذات الدرب والطريق سنواصل مشوارنا جميعا في نقل الحقيقة للناس، لكننا لا نستطيع أن ننكر أن أرواحنا التي نكابر لإبقائها على عافيتها تذبل كل يوم، مع كل قطرة دم سقطت أو تسقط منكم، تذبل مع كل شهقة روح كانت تصعد معها أرواحكم إلى بارئها.
كل الجماعات والعصابات والمليشيات المسلحة التي غزت مدينتنا منذ مايقارب الثلاثة أعوام، تدرك جيدا فداحة هذا الخسران الكبير والأليم، ولذلك فهي تمعن في نكئ الجراح وغرس خناجرها المسمومة في أجسادنا، ومتى وأين ما تأكدت أنها أوجعتنا كثيرا، استمرت في ذلك.. ولا تأخذها حين ذلك شفقة أو رحمة، أو حتى إيمان ضئيل أن الله خلقنا وأعلى من قيمتنا، وجعل دمائنا وأرواحنا محرمة على كل بني آدم، بل وشدد على ذلك، وأعد عذابا وعقابا عظيما لمن خالف ذلك، ولم يستمع لأوامره ونواهيه.
حزينون والحزن يخنقنا كثيرا، ونحن نودع اليوم زميلنا وصديقنا ورفيق أيامنا “شهيدنا السابع” في الأسرة الصحفية والإعلامية بمحافظة تعز، المدينة المُحَارَبة والمُحَاصَرة والمظلومة في آن، المدينة التي خذلها الجميع ومن أوليناهم مسؤولية تحريرها، وحتى بعد أن باتت مدمرة لم يستجب لنداءاتها أحد، وأكثر موقف خارجي داعم حصلت عليه هو “بيان إدانة”.
لروحك الرحمة والخلود يا محمد، ولقاتليك الخزي والعار، عزاؤنا لأهلك وأصدقائك ومحبيك، وللأسرة الإعلامية بمصابنا الجلل فيك، لمدينتك الانتصار والعزة والرفعة، ولوطنك المجد الدائم، الحزن يكسو كل شيء يامحمد، حتى الحقيقة التي كنت تبحث عنها وتوثق لحظاتها بجرأة ويقين لايخالطه شك، نم قرير العين.. ولا نامت أعين قاتليك.