فكر وثقافة

من الفن إلى اللافـن…

يحيى بن الوليد

الحديث عن موضوع الفن في تراوحه ما بين الفن ذاته واللافن يهمّنا، في هذا المقال، الحديث عن موضوع الفن في تراوحه ما بين الفن ذاته واللافن؛ وذلك كلّه تحت تأثير الصناعة الثقافية والتسليع والاستهلاك… ومن منظور النقد الثقافي بصفة عامة ومدرسة فرانكفورت بخاصة التي لا تزال تنطوي على العديد من الأفكار القابلة للترهين وتعيننا من ناحية استخلاص الأنساق الثقافية وقياس مدى تأثيراتها الكبرى على المجتمعات الممزّقة بتناقضاتها الاقتصادية والمجتمعية. وهذا بالإضافة، وبكثير من الإيجاز، إلى بعض آراء نقاد الفن في العالم العربي.

ونبدأ من فكرة للشاعر والفيلسوف بول فاليري يكرّرها أحياناً بعض المثقفين العرب ونصّها كالتالي: “هناك سلعة اسمُها الفكرُ كما أن هناك سلعة اسمُها النفط أو القمح أو الذهب”. ويمهِّدون للفكرة بأن “فاليري كان على صواب حين قال (ساخراً): هناك سلعة اسمها… إلخ” فيما يذيّل بعضهم القولة بأن هذه “السلعة، وللأسف، لا تتوقف عن الهبوط والابتذال” وبخاصة في ظل ما ينعت بالاستنساخ الميكانيكي الكاسح والمتزايد؛ كما يمكن أن نضيف. ولعلّ في ذلك كلّه، أو على نحو ما يمكن تأوّله، ما يحيل إلى إشكالية الموقف من الموضة الفكرية أو التسليع الفكري… ومن موقف نقدي مضاد (ومطلوب) هو موقف التملّك المعرفي والبناء الفكري. وكما قال عبد الله العروي، وفي سياق فكري وإيديولوجي عربي، فـ”الفكر مسؤولية وليس موضة”.
والحال أن ما يهمنا، ومن خارج التخندّق في أيّ ضرب من التفسير “الكارثي” للسلعة والتسليع، هو مجال الثقافة وفي إطار من ماكينات الصناعة الثقافية في دنيا الفن الحديث والمعاصر باعتبارها عالماً قائماً بذاته وكاشفاً عن تضافر وسائل الإعلام والثقافة الجماهيرية من جهة والتصنيع والتسليع من جهة موازية. عالم “كل ما هو صلب فيه يتحوّل إلى أثير” في دلالة على عنوان كتاب الكاتب الأميركي مارشال بيرمن (Marshall Berman). والكتاب (وقد سبق لنا أن أحلنا عليه في مقال سابق لنا) مفيدٌ في مثل “السياق الفني الحداثي” الذي نصدر عنه، لاسيما من ناحية تداخل الفن والأدب والمعمار وما يتهدّد هذا التداخل من تسليع هو قرين الانفلات والتفتيت كما في “حال العرب”.
ستكون المسألة مسألة “حداثة” أمام صناعة ثقافية (شعبية) متوجِّهة ــ عبر نصوص وخطابات ــ لجمهور محدّد في نطاق سيرورة جدلية حضارية وفي ظل تحوّلات الإيديولوجيا الرأسمالية الاحتكارية. صناعة تغذّيها مرجعية بمستندات تصوّرية ومقولات نظرية، ومحكومة بمداخل وخلاصات وأفكار ومفاهيم وآليات… إلخ.
وتركز الصناعة الثقافية على الثقافة باعتبارها مناط تشكّل الأنساق، ومجالَ تقدّم الأنساق ذاتها، على طريق تعميق أشكال من استراتيجيا التطويع والهيمنة والسيطرة على المجتمعات الحديثة التي تصرّ كما يصفها إيَان كريب (Ian Craib) في كتابه “النظرية الاجتماعية” على أنها “مجتمعات منسجمة ومتناغمة، وهي تعزف قطع موتسارت الموسيقية للأبقار كي تحافظ على كميات الحليب الكبيرة التي تدرّها” (ترجمة: محمد حسين علوم، ص323) وفي دلالة على المنتوج الفني المصنّع في ظل عصر الاستنساخ الذي أفضى وضمن ما أفضى إليه ــ لاحقاً ــ من “جنون للبقر” وأشياء أخرى.
والمنطلق من الآلة التي هي من “اختراع الأزمنة الحديثة” كما يقول كارل ماركس، وفي المدار الذي أدّى إلى العقل الأداتي والعقلانية الأداتية. ومن ثم وصْلِ الثقافة بمجال الصناعة الثقافية بعد تمكين هذه الأخيرة من آليات بموجبها تمّ ترسيخ نمط من الاستهلاك الثقافي المصنّع في سياق نمط أوسع هو نمط المجتمع الاستهلاكي. وبما أنه وراء الاستهلاك هناك جماهير متناغمة ومتجانسة، لا مجال فيها للفرد والفردانية، فليس غريباً أن تتسارع وتائر الاستنساخ بغية تلبية حاجات الجماهير المتزايدة. وبما أن اليومي كذلك هو مناط الاستهلاك، كما يركّز على ذلك الفيلسوف والسوسيولوجي جان بودريار (Jean Baudrillard) في كتابه “مجتمع الاستهلاك” (La société de Consommation) (ص33)، فليس غريباً أن يتمّ الحرص على مركزية صناعة الترفيه والتسلية ضمن النسق الكلي للصناعة الثقافية. وكان ماكس هوكهايمر، ونطاق أفكار مدرسة فرانكفورت، يضع مقولتي التسلية الشعبية والصناعات الثقافية جنباً إلى جنبٍ وحيث تكون المقولة الوسيطة هي مقولة “التطويع” كما يلخّص فيل سليتر (Phil Slater) في كتابه “مدرسة فرانكفورت” (ترجمة: خليل كلفت، ص193).
وكان لـ”أفول الفرد”، أو تذويبه، في سياق فكرة الفردانية التي يميّز تيودور أدورنو بينها وبين “الذاتية”، دورٌ في هذا السياق الجارف… وعلى النحو الذي أفضى إلى “الإنسان ذو البعد الواحد” تذكيراً بعنوان كتاب هربرت ماركوز الذي حصد اهتماماً عالمياً وقت صدوره. وأفول الفرد هذا تجسّد في أشكال من التمثلات الثقافية والفنية والسياسية… وعلى النحو الذي حافظ للفرد، على سبيل التمثيل الدال والمفارق في آن واحد، على صفة “ثائر بلا قضية” كما نقرأ في كتاب “انتحار الغرب”.
ووفق هذا المنظور المقارباتي المحصّلاتي والتراكمي، وفي إطار من محور الصناعة الثقافية ذاتها، تمّ استبدال مفهوم الفن ذاته بمفهوم الصناعة، وتمّ تسليع المنتوج الثقافي بعامة مثلما تمّ تسليع المنتوج الفني بعد أن تمّ “خلع الفن عن الفن” كما يعالج ذلك أدورنو في كتابه الدسم “نظرية إستطيقية” (ترجمة: ناجي العونلّي) تحت تأثير الصناعة الثقافية ونتيجة تلخيص الفن في مجرد قيمة تبادلية قوامها منتوجات ثقافية منتظمة ضمن “آلية التطابق” و”آلية الاستبدال والتعويض”… ودون جدّة فنية جذرية أو “قيمة استعمالية بنيوية” حتى نبقى في نطاق “التحليل القيمي” نفسه.
وهو ما أفضى، من المنظور الذي يرادف بين الصناعة الثقافية و”ثقافة الحشد” أو “الثقافة الحشدية”، إلى ابتذال الفن وانهيار الجمال ككل. وكانت الحصيلة أن فقد الفن استقلاليته نتيجة انتفاء مفهوم “النفي” للواقع الذي يشير إليه هذا الفن ونتيجة انتفاء مفهوم “النقد” الذي يتحقّق بواسطة “المقاومة” وصولاً إلى مفهوم “التمايز” (Non-Identité) الذي يتحقّق عن طريق المفهومين معاً، وبخاصة في ظل ــ كما يمكن أن نضيف هنا ــ ما نعته أدورنو بـ”مينيماموراليا” أو “ذرة أخلاق” (Minima Moralia) (1947) أو “الحياة المشوَّهة” كما يترجم الباحث عبد العلي معزوز العنوان ويعرض لأفكاره الأساسية في كتابه الذي كرّسه لتيودور أدورنو نفسه تحت عنوان “النظرية النقدية ــ أدورنو ومدرسة فرانكفورت”.
ومن المفهوم أن يستند أدورنو، في “نظرية إستطيقية”، وفي تصوّره النظري لـ”الأثر الفني في العصر الصناعي” أو “الفن الحديث والإنتاج الصناعي”، إلى الطرح الاجتماعي المضاد للمجتمع بدليل أن الفن لا ينبغي استنباطه مباشرة من المجتمع، بل ومن المفهوم كذلك أن يستند أدورنو إلى تصوّر جذري للفن وأن يدافع عن الفن بمعناه المطلق إلى الحد الذي بموجبه يخرق الفن ذاته، غير أن السؤال العريض الذي يفرض ذاته الآن: هل الصناعة الثقافية تقتل الفن دائماً؟ أو على الأقل تجعله فارغاً من المعاني؟ وأليس بالإمكان التعاطي للموضوع من خارج مفاهيم صنمية السلعة والقيم التبادلية والثقافة النخبوية (أو المصنّفة) وأفول الثقافة ودوائر الاستهلاك؟ وهل انتشار الفن جماهيرياً يفضي بالضرورة إلى “إزاحة الهالة” عن الفن الحديث (بتعبير فالتر بنيامين) وبالتالي حرمانه من “طاقته التحرّرية” ومن أنساقه النقدية للعالم “المصوّب دائماً نحونا كمسدّس” بتعبير أدورنو نفسه؟
الملحوظ، أو بالأحرى المفروض على الفن، هو خروجه عن دائرة الطقس الثقافي والجمالي نحو الاندماج في آفاق الإنتاج والتوزيع والاستهلاك ونحو الاستجابة لثقافة الصورة ورهانات الاقتصاد. ولذلك حلّ الطقس الإشهاري والاستهلاكي محلّ الديني والقدسي، ومن ثمّ ارتهن الفن للاقتصاد والإعلام… والقيمة التبادلية وعلى النحو الذي بموجبه يمكن الحديث عن نوع من “موت الفن” في دلالة على فهم آخر مغاير للفن من خارج “خطاب النهايات السعيدة” (بتعبير فيصل دراج)، وفي دلالة على فهم خاضع للسوق وميكانيزمات التوسّط عبر قيمة التبادل. وضمن هذا التبدّل حافظ الفن، من منظور كثيرين، على نسق مخصوص يقوم على مخطط تذويب الفن والإنسان سواء، بل جعلهما مجرد “سلع” أو “أشياء” في أحسن الأحوال.
والمسألة هي مسلة ثقافة بصفة عامة. وبمقياس عالمي، كما يقول تيري إيجلتون في كتابه “فكرة الثقافة” (ترجمة: ثائر ديب)، فإن الصراع العالمي هو بين الثقافة باعتبارها سلعة والثقافة بوصفها هوية (ص151). ولعل هذا ما أوضحه، بدقة فلسفية وشذرية، كل من أدورنو وفالتر بنيامين؛ وهذا على الرغم من تحوّطهما بخصوص مفهوم “الهوية”، ولعل جانبًا من هذا النقاش ما حاولنا الخوض فيه في كتابنا الموسوم “الكتابة والهويات القاتلة” (دار أزمنة، 2008). وبغض النظر عن النقاش المطوّل الذي يفرضه الرأيان… فإن مناط التحوّل حصل من ناحية الحدود ذاتها بين “الثقافة الرفيعة” والثقافة الوضيعة” وعلى وجه التحديد من ناحية “التآكل” (والاصطلاح لتيري إيجلتون نفسه) الحاصل في الحدود بفعل فنون مثل السينما التي استطاعت أن تقدّم عدداً كبيراً من الروائع التي تكاد تروق الجميع (ص115). وفي حال أدورنو، وكما يقول ب. ستريناتي في بحثه “مدرسة فرانكفورت وصناعة الثقافة”، ربما تكون نظرية الثقافة الشعبية عن الموسيقى الشعبية هي الجانب الأكثر شهرة في تحليله لصناعة الثقافة. غير أن ما يؤخذ عليه أنه يستند إلى معيار وجهة النظر الغربية للموسيقى الكلاسيكية، بكلام آخر: هو لا ينظر إلى الموسيقى الشعبية من خلال تقاليدها (سهيل نجم (تحرير وترجمة): الحداثة وما بعد الحداثة، ص25).
وفي مجتمع “حيث كل شيء سالك” (anythings goes)، حسب تعبير الفيلسوف ريتشارد روتي، وعلى نحو ما يقول جورج ستينر في حوار معه (ترجمة محمد برادة: الدوحة: العدد: 70 يوليو 2013)، يغدو من الصعب على الشاعر أن يخلق عالماً مضاداً. وفي حال النقد الفني أعتقد أن الناقد التشكيلي إبراهيم الحسين يلخص لنا الموضوع عندما يقول: “من سمات الفن الراهن Art actuel تحطيم العادات البصرية المتوارثة منذ العصور الماضية واستعادة الأشياء الجاهزة وانمحاء الحدود بين الفن واللافن..وانبثاق استتيقا مغايرة قائمة على الاستعراض والأداء الحي (البرفورمانس).
“إثر ذلك، صار الفن يُقاس بما يوفره من احتفالية، أي الانتقال من دائرة الذوق البورجوازي إلى دائرة الجماهير. كما ولج الفن الراهن عالم الوسائط ومجال الميلتي ميديا، إلى غير ذلك من الحوامل الجديدة التي منحت الفن سمات وأدواراُ أخرى لم تكن سائدة من قبل”. وفي مثال دال على هذا التحوّل “هل “انتهت” اللوحة المسندية؟” على نحو ما تساءل الناقد شربل داغر في “خاتمة إشكالية” التي ختم بها كتابه “العين واللوحة”؟
قد يرى في هذا التحوّل نقاد فنيّون آخرون “هشاشة”. وفي هذا الصدد يمكن أن نحيل على كتاب الناقد الفني والباحث الفلسفي إدريس كثير “هشاشة الفن المفرطة” الذي صدر مؤخراً في طبعة ثانية ومزيدة عن منشورات “مقاربات” (المغربية) (2016). ويذهب الباحث، في الكتاب، إلى أن “موت الفن” عبارة لا تعني تجاوز الميتافيزيقا ونهايتها بقدر ما تعني استسلام الفن لها ولقبضتها المصيرية النهائية. “موت الفن” ليس مفهوماً يمكن تجسيده في هذه الحالة، إنما هو “حدث تكويني” لفضاء تاريخي أنطولوجي عارم، حيث لا يستمر الفن كظاهرة إنما يغدو جزءاً ضمن نظرة إستيطيقية معممة للوجود”. ومن الجلي، في نظرنا، أن المسألة ليست مسألة “هشاشة” أو “موت” بالمعنى الظاهر للكلمتين؛ وهو ما يمكن استخلاصه حتى من تصوّرات “ما بعد الحداثة” على توجهاتها. نحن بصدد تحوّل في الركائز الثلاث التي ينهض عليها الفن أو العملية الفنية من إدراك وتشكيل وتأثير.
ولقد كان من المفهوم ألاّ يسلم الفن بدوره من المتغيّرات والتبدلات التي مسّت أنساق التفكير والإدراك والتأثير في سياق متغيّرات بنيوية كبرى. صار الفن يعكس التحوّل في أنساق الثقافة ذاتها، ومن ثمّ تغيّرت وظائفه ومفارقته لأحياز الكنائس والمعابد والمعاهد والمؤسّسات الرسمية… ونزوله للشارع وإسهامه في أشكال من الحراك والاحتجاج وكذلك تصدّره لواجهات المطاعم والمقاهي والبيوت. لم يعد محكوماً على اللوحة أن تظل فوق أو بجوار جهاز التلفاز أو أن تتصدّر قاعات الاستقبال، ولم يعد الفن وقفاً على المتاحف ومن خارج ــ إذا جاز التنصيص على ذلك ــ كليشيه “فن اللافن” الذي هو أخف وأرحم من كليشه “مزبلة المتاحف وتحفة المزابل”. ما يولّد الثقافة صار ممثّلاً في الحاجة وليس المعنى كما يقول تيري إيجلتون في “فكرة الثقافة” (ص214)، ومن منظور “ما بعد الحداثة”، في بعض مفاهيمها الأساسية، ما صار يولّد الفن ليس النمط وإنما التحوّل وليس العمل الناجز والممركَز والمركَّب وإنما الأداء والحدث والتلازم والمحايثة والتفاعل… إلخ.
نقلا عن المنبر الثقافي العربي ضفة ثالثة 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى