لقد أُشْتقَّ اسم عدن من العدون، أي الاقامة والمكوث الدائم، حيث ألقى الله بصخرتها في ذلك الركن الحاد والمحصور الذي مثَّل جغرافياً خاصرة لليمن وجزيرة العرب، فقد استقرت هناك تجسيداً مثالياً لمبتدأ الحكاية ومنتهى البلاد:
عدن، مدينة قديمة قِدَمَ التاريخ، رابضة بين البحر الذي همدَ هيجانه والجبل الذي خمدَ بركانه.
في سِفْرها التليد تتراقص الأساطير وتتزاحم الحكايات.. وقد تنوَّعت أعراق ساكنيها وأجناسهم وأديانهم حتى غدت مدينة كوزموبوليتيانية حقيقية، اِذْ سطَّرت كتابَها شعوبٌ شتى قدمت إلى ضفافها من وراء البحار، في غزوات عسكرية أو استكشافات علمية أو رحلات تجارية أو زيارات سياحية، فاستقرّ بعضهم فيها ردحاً طويلاً من الزمن، فيما غادرها آخرون بعد علاقة عابرة، غير أنها طبعت هؤلاء وأولئك بشيءٍ حميمي من هويتها الخاصة في وعيهم والوجدان.
ومن بين هؤلاء كان الشعراء والأدباء والمؤرخون من الرحالة والمتوطِّنين على السواء. وفي سيرتهم معها نتجت نصوص ابداعية وكنوز معرفية أزدانت بها الذاكرة قبل المكتبات، وحضرت في النصوص المقدسة قبل اعتمالها في النفوس الشاعرة.. فقد كانت عدن مُلهِمة الكثيرين من أهل الأدب من عرب وعجم، ممن نزلوا في حياضها وأنسوا الى ناسها واستقروا على ضفاف خليجها وتعاطوا معها صحون الصُّحبة وكؤوس المحبة ودفاتر الأيام.
منذ زمن قديم، طافت هذه المدينة الساحرة بقلوب وعقول شعراء كثيرين، قالوا عنها خواطرهم وبثُّوا فيها أشجانهم، بدءاً من اليشكري والتغلبي والأعشى وعمر بن أبي ربيعة والفرزدق والمتنبي.. مروراً بأحمد شوقي وحافظ ابراهيم وسليمان العيسى وعلي أحمد باكثير ومحمد مهدي الجواهري.. وصولاً الى سعدي يوسف وأدونيس ومحمود درويش وسميح القاسم وابراهيم نصرالله.. عدا عبدالله البردوني وعبدالعزيز المقالح ومحمد عبده غانم ولطفي جعفر أمان ومحمد سعيد جرادة ، وآخرين عديدين.
لقد أُشْتقَّ اسم عدن من العدون، أي الاقامة والمكوث الدائم، حيث ألقى الله بصخرتها في ذلك الركن الحاد والمحصور الذي مثَّل جغرافياً خاصرة لليمن وجزيرة العرب، فقد استقرت هناك تجسيداً مثالياً لمبتدأ الحكاية ومنتهى البلاد:
(تقولُ عِيسي ، وقد وافيتُ مبتهِلاً
لحجاً ، وبانتْ ذُرى الأعلامِ من عدنِ:
أ مُنتهى الأرضِ يا هذا تُريدُ بنا؟
فقلتُ: كلا، ولكنْ منتهى اليمنِ ). “عمر بن أبي ربيعة”
ومثلما قبعت عدن في أقصى يسار جزيرة العرب، فان قَدَرها -ذات زمن- كان أن تحتل هذا الموقع اليساري القصي أيضاً من الخارطة الجغرافية إلى الخارطة السياسية، فكانت قِبْلَةً لحلم الفقراء في جنةٍ على الأرض تُظللها العدالة والكفاية والمساواة، لكن الحلم استحال سراباً ذات زمن ويمن لاحقين:
(ذهبنا الى عدنٍ قبل أحلامنا، فوجدنا القمر
يُضيءُ جناحَ الغرابِ. ألتفتنا إلى البحر، قلنا:
لمن يرفعُ البحرُ أجراسَهُ، أ لنسمع ايقاعنا المُنتظَر؟
ذهبنا إلى عدنٍ قبل تاريخنا، فوجدنا اليمنَ
حزيناً على امرىء القيس، يمضغُ قاتاً، ويمحو الصور
أما كنتَ تدرك يا صاحبي، أننا لاحقانِ بقيصرَ هذا الزمن؟
ذهبنا إلى جنة الفقراء الفقيرةِ، نفتحُ نافذةً في الحجر
لقد حاصرتنا القبائلُ يا صاحبي، ورمتنا المحن
ولكننا لم نُقايض رغيفَ العدوّ بخبزِ الشجر
أما زال من حقّنا أن نُصدّقَ أحلامنا،
ونُكذّبَ هذا الوطن ؟). “محمود درويش”
غير أن عدن الحلم، ثم عدن السراب، آلتْ إلى عدن اليباب، بعد أن ترامت على منكبيها قبور الضحايا في حروب الهباء اللعين، وكأنَّ لعنةً قَدَريّة قد حلّت بهذه المدينة التي كانت ذات يوم مربضاً لخيل الخير، ومدماكاً لخيمة الشعر، وشاطئاً ذهبيّ الرمال تتوسّده نوارس العاشقين:
(على بُعْد عشرين ألف ظلامٍ، وسبع حروبٍ
رأيناكِ… ما كنتِ وحدكِ
حولكِ حشدٌ من الشهداء
نُسمّي بأسمائهم وقتنا المُفتدى
ثم جئناكِ … أنتِ الأليفةُ كالمطر الموسميّ
القريبةُ مثل سماء القرنفل
تنتشرينَ هنا، نجمةً للسواحل
بحراً تواثبَ… مقهىً تهبُّ عليه اللغات
شوارعَ حافلةً بالتلكوء بين الحروب
وأشرعةً ما اهتدتْ أبدا
ثم تنهمرين على شجر الروح
ضاحكةً للجرح.. تيَّاهةً.. مُشتهاةً
… ومُثخنةً بالندى). “محمد حسين هيثم”
إن ذلكم الكم الهائل من الشعر.. ذلكم الكم الهائل من الحب والوجد والحنين الذي أمطرَ عدناً عبر تاريخها المديد، هو الشيء الوحيد الذي بقيَ خالداً في السِّفْر العدني بعد اندثار كل مبنى ومعنى في تاريخها التليد.. ولعمري أنه الشيء الوحيد الذي سيُبْقيها خالدة في السفر اليماني، بل والانساني، وصامدة في وجه جحافل التتار المعاصر الذي ينهشها اليوم، في كل لحظة ومع كل نبضة.. غير أنه عاجز تماماً على نهش تفاحة الشعر في دوحتها الوارفة، وانْ كانت نازفة!
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.