كتابات خاصة

عبودية الدخان

سلمان الحميدي

احنا مربوطين بدفتر الديون في دكان زعفران، وهي لا تكرر جلب السلعة مرتين».  التدخين مضر بالصحة، ولكن أبي قام بتغيير نوع التبغ الذي يدخنه، هذا هو الصنف الرابع الذي يلجأ إليه منذ بداية الحرب.  ليس أبي وحده من يفعل ذلك، أكثر المدخنين إن لم يكن كلهم لم يحافظوا على شكل علبة التبغ، عبودية الدخان تحتم تغيير شكل العلبة لا الاستغناء عن لذة التمباك.

«كل أسبوع نوع، احنا مربوطين بدفتر الديون في دكان زعفران، وهي لا تكرر جلب السلعة مرتين». قال صاحبي عنتر ذات يوم.
عنتر صار يدخن أحيانًا بسبب الحرب، وكأنه يرمي بمخاوف الواقع وهواجسه مع رماد السجائر، وإن كان يدخن من ذلك النوع الرديء. بكل تأكيد لا يمكن إغفال دور الحرب في تدهور عملية التدخين. صار حفاظ المدخن على الصنف الواحد أمرًا شاقًا، مدمنو النيكوتين ينحدرون للأردأ، لأوضاع المعيشة الدور البارز في شكل الدخان.
قبل التسعينيات كان ابن دحوة ميسورًا في الغربة، يقسم الثلث الأول من السيجارة ويرميه للأرض، يدخن بالثلث ويرمي بالباقي، وصل والده دحوة وتعجب من رفاهية ولده الذي لم يكن يدخن من قبل، كان يدخن بشراهة على تلك الشاكلة،  يقولون أن اللذة كامنة في الثلث الثاني لكن ابن دحوة يفعل ذلك على سبيل الاستعراض.
ضاق دحوة من عمل ابنه، لملم الأعقاب الصفراء ووقف ليقول لابنه الجملة الأخيرة وكأنه يخاطب فتاة:
«شاذكِّرِكْ لما ترجعي تمصي حتى السفنجة الصفراء». وبالفعل ضاقت الأحوال، وترك الرجل الغربة، وحين أنهى ما ادخره عاد يفتش عن أعقاب الآخرين في المنافض والطرقات غير مبال بمثالية التدخين التي تلبسته، ولا لقواعد دافيدوف:
التوقف عن تدخين السيجارة في منتصفها
دعها تحترق من تلقاء نفسها
لا تطلب قداحة من شخص آخر
لا تدخن وأنت تسير
من الخطأ إعادة اشعال السيجارة مرة ثانية.
قواعد دافيدوف تبدو مصاغة لمدخن مثالي، لا دخل لليمني بها وخاصة الآن عند الحرب، يطلب النصف المتبقي والولاعة المفرغة من الغاز، يبلل السيجارة ويكدح على الولاعة حتى يشعلها وهو ماش. يحترق الاسفنج وتختنق الرئة.
لا لياقة للدخان، وإن كان الجمهور يرى غير ذلك، من باب المجاملة أحيانًا، وأحيانًا العقدة النفسية، وربما النفاق الاجتماعي، إذ يجعل الآخر يرى شكل الدخان يختلف من شخص لآخر وإن كانا يدخنان من علبة واحدة.
كان “س” يدخن في المجلس، وهو يعول أسرة ولا عمل لديه ولا وظيفة، يعمل بالأجر اليومي، كان من في المجلس يكحون بجدية، ويغوصون في مخاطر التدخين السلبي، وفي مئات المواد التي تتركب في الفاتنة التي لا تساوي قدر الإصبع، عن أول أكسيد الكربون والنيكوتين، وعن القطران.. يعددون الأضرار والمخاطر على الجيوب الأنفية. ويتهمون سجائر “س” بأنها تنفث دخانًا كثيفًا، لقد أطفأ سيجارته وصبر حتى أتى “ص”.
“ص” شخص ثري، يملك سيارة فخيمة، وثوبًا مزركشًا، وزيت الدسومة ينعكس على جلده فيلتمع رغد الثراء، دخل إلى المجلس وأشعل سيجارته، كان يدخن من ذات الصنف الذي يدخن منه “س”، لم يتحدث أحد مع “ص”، صاروا يثنون عليه وعن لياقته في تعطير المكان، وأسلوبه في التدخين، نفد صبر “س” فقال:
«والله الفقير لو دخن بمارلبورو اشتقولوا ما يعرفش، والغني لو دخن “بقرمود” اشتقولوا دخانه بخور».
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى