على أصابعي أعدّ الأيّام/ وعليها أعدّ أيضا أصدقائي وحبيباتي/
على أصابعي أعدّ الأيّام/ وعليها أعدّ أيضا أصدقائي وحبيباتي/
وسيأتي يوم لن أعدّ فيه على أصابعي/ سوى أصابعي
بول فانسانسيني
ما أكثر ما كتب في الصداقة والصديق عند العرب وما أمتعه، على أنّ تخصيصهم بهذه الظاهرة دون غيرهم؛ سوء تدبّر وإجحاف، والصداقة تجربة إنسانيّة كونيّة مفتوحة لم يكن السّبق فيها للعرب ولن يكونوا فيها حلقة الاختتام، وهم على هذه الحال من الجفاء. وإنّما يتبوّأ العرب فيها منزلة لا يفضلون بها منازل غيرهم، ولا هم في ذلك أدنى منهم. على أنّ ذلك لا يبخسهم حقّ التفرّد ببعض الميزات التي تجعل رؤيتهم للصداقة مخصوصة بخصائص حضارتهم، ومطبوعة بطبائع بيئتهم.
وفي أدبنا ما يغري بعقد دراسة تنهض برصد التّحوّلات التي تطرأ على الصداقة في انتقالها من مستوى المعيش الحيّ، إلى مستوى الكتابة الفنّيّة وهي تتمثّل هذا المعيش العاطفيّ شعرا أو نثرا، فإلى مستوى التّأصيل النّظريّ سواء لتجربة الصداقة نفسها مباشرة أو لكيفيّة استحضارها في فنّ من الفنون. بل إنّ هذا لَيغري بمحاولة رصد المنجز الإنشائيّ لهذه التجربة في أنشطة معرفيّة مختلفة سواء أكانت من جهة التّعبير الفنّيّ أم من جهة القول النّظريّ؛ إذ ليست الصداقة مجرّد موضوع من موضوعات المعرفة أو غرضا من أغراض الأدب والفنّ؛ وإنّما هي طريقة من طرائق الكتابة الإبداعيّة أو النّظريّة تشهد بذلك نصوص ومدوّنات كثيرة تنتسب إلى تاريخ الأدب وإلى تاريخ الفلسفة: ابن المقفّع (ت 759م) في «الأدب الكبير» وباب «في معاملة الصديق» وأبو سليمان الخطّابي (ت 998م) وأبو حيان التوحيدي (ت 1023م) في «الصداقة والصديق» وابن مسكويه (ت 1030م) وأبو حامد الغزالي (ت1111م) وابن حزم الأندلسي (ت 1064م) في «رسالة في مداوة النفوس» وغيرهم كثير…
كيف نحدّ الصداقة؟ أهي حاجتنا إلى العيش معا؟ أهي مجرّد ميل أو تعاطف متبادل بين شخصين يتقاسمان قيما أخلاقيّة مشتركة، ولا ينتميان إلى العائلة نفسها؟ هل تنعقد الصداقة خارج روابط الدم ووشائج القربى؟ ألا يمكن أن تنعقد بين الإخوة والأخوات؟ والأصدقاء في فيسبوك؟ أهم كلّهم أصدقاء حقّا؟ ونحن نعرف أنّ مصطلح «صديق» المستخدم في شبكات التواصل الاجتماعيّة، لا يشير إلى الصداقة بالمعنى المطّرد للكلمة. بل هل تنعقد بين رجل وامرأة؟ وهو السؤال الذي يستأثر بنا في هذا المقال.
أمّا عند أرسطو فإنّ الصداقة الحقيقية الوحيدة هي الصداقة الفاضلة. وهي التي ينشدها كلّ إنسان، حتى وإن لم يظفر بها. وهي تنعقد بين شخصين على أساس من قدم المساواة في «الفضيلة». والصداقة عنده تتميّز عن الحبّ من حيث هو تبعيّة أو تعلّق وخضوع حيث يعيش شخص تِبْعا لشخص آخر. والصديق الحقّ هو الذي يجعل صديقه يتحسّن في سلوكه وفي عيشه، إذ هو المرآة التي يتملى فيها نفسه. وهي من ثمّة شرط أساسيّ لبلوغ السعادة.
أمّا عند شعراء التروبادور في القرون الوسطى، ولعلّهم أوّل من أرسى مفهوم «صداقة الحبّ» فتلوح المرأة وهي تصبو إلى أن تكون علاقتها بالرجل قائمة على الصداقة والثقة المتبادلة؛ لأنّها تخشى أن لا تكون بالنسبة إليه سوى موضوع رغبة جنسيّة. والحبّ من حيث هو رفق الرجل بالمرأة أو عطفه، لم يُدرك في الغرب إلاّ عندما تعلّم المحبّون، خارج مؤسّسة الزواج، أن يفصلوا بين وحدة الشعور والعلاقة الحميمة، وأن يحرّروا علاقتهم بعشيقاتهم، من العوامل الحسيّة، ويؤسّسوها على ما يسمّى «الروحنة»، وعلى منوال لعلّه ليس أكثر من منوال «الصداقة الذكوريّة».
إنّ تعريف الصداقة التي يمكن أن تنعقد بين الرجل والمرأة على هذا النحو، محفوف بمحاذير منها الخشية من استعمال مفردات مثقلة بمفاهيم جديدة ليس لها مدلول تاريخيّ محدّد، ومن إسقاط تعريفات «الكورتيزيا» الغربيّة أي شعر الغزل «التروبادوري»، وما يتميّز به من رقّة ولطف وأدب على الصداقة بين الرجل والمرأة؛ باعتبارها صنوا له. والنسيب العربي مثلا ظهر قبل»الكورتيزيا» بخمسة قرون، ولا ندري ما إذا كان الأمر يتعلّق بتواصل أو بتقليد أو بتطوّر مستقلّ. والأقرب أنّه يتعلّق بالتأثير العربي وشيوع الحبّ العذري في جنوب فرنسا. وقد سُمّي «كورتوا»، ثمّ ترحّل إلى الشمال، وظهر في قصّة «تريستان وإيزوت». وهذا موضوع كان عبد الواحد لؤلؤة قد فصّل فيه القول، وبيّن استئناسا بمصادر غربيّة أنّ الحبّ «الصحيح» لا علاقة له بالزواج، وأنّ هناك ديانة يمكن أن نسمّيها «ديانة الحبّ» ظهرت من حيث هي منافس للديانة الحقّ، بتأثير من عرب الأندلس. ويقدّر دارسون أوروبيّون أنّها هي التي أرست هذا المفهوم المستجدّ في الغرب، أي مفهوم الصداقة بين الرجل والمرأة.
على أنّ الصداقة بين الرجل والمرأة صارت ممكنة سواء في مجال العمل أو في الفضاء الخاصّ، منذ أن أُقرّت المساواة بينهما في الدساتير والقوانين. ولكن أيّة صداقة؟ يقول الأب الكاثوليكي فرنسوا دو صال (1567/ 1622) إنّ الصداقة هي أكثر أنواع الحبّ خطورة وأشدّها، ذلك أنّ الأنواع الأخرى يمكن أن تنشأ من غير اتّصال أو مشاركة؛ ولكنّ الصداقة وهي القائمة كلّها على هذه، لا تنعقد من غير أن نشارك الشخص الذي نطلب صداقته خصاله ونحذو حذوه. وكلّ حبّ ليس صداقة، إذ يمكن أن نُحِبّ دون أن نُحَبّ. فهناك إذاً حبّ من طرف واحد ولكن لا صداقة البتّة. والصداقة إنّما تكون على قدر ما تكون حبّا متبادلا، وإذا لم يكن تبادلٌ فلا صداقة. بل لا يكفي أن يكون متبادلا، إذ لابدّ من أن تدرك الأطراف المتحابّة، هذه المحبّة المتبادلة. أمّا إذا كانت تجهلها أو هي لا تقدّرها حقّ قدرها، فإنّ ما يجمع هؤلاء في هذه الحال، إنّما هو الحبّ وليس الصداقة.
الصداقة من حيث هي قُرْب أو جوار أو «أمسية خريفيّة هادئة» كما كتب الألماني هارتمان، تسبق كلّ تصوّر أو تمثّل، وقد يتعذّر أن نستصفي منها مفهوما. بل لعلّها تصوّريّة معنويّة أي كلّيّة مجرّدة، والكلّيات لا مقابل لها في الخارج من حيث هي كذلك؛ وإنّما هي تركيبات من صنع العقل. ونحن إنّما نرى الأصدقاء ولا نرى الصداقة، وأن نتميّز شخصا ما على أنّه صديق أو صديقة، فهذا يعني أنّنا لا يمكن نتعرّف إليه باعتباره «شيئا ما»؛ ونحن لا نقول «هذا صديق» كما نقول « هذا أبيض» أو «هذا أسود»، أو «هذا عربيّ»… ذلك أنّ الصداقة، على ما يقرّره أهل الذكر، ليست مزيّة ذات أو خاصّةً من خواصّها.
لكن لا يقعنّ في الظنّ أنّ الحبّ بين الرجل والمرأة لا يمكن إلاّ على جهة التملّك أو الزواج، فيكون من ثمّة مطلبا مشروعا لبعض البشر دون الآخرين، أو أنّ الأمر لا يعدو الانتقال من سجلّ ماديّ إلى سجلّ مثاليّ أو حتّى العكس، على نحو ما قد يتوهّم ضرب من الإدراك السّاذج.
أمّا إذا كان الحبّ الذي تتمثّله الصداقة نقصا؛ فقد يعني هذا من ضمن ما يعني أنّنا نحبّ ما نفتقد؛ حتّى لكأنّ العبارة المأثورة في كلّ لغات العالم «أحبّك»، تعني «افتقدك» أي «أريدك». و»أريد» في بعض اللغات «مرادف» لـ»أحبّ» كما هو الشأن في الإسبانيّة. ولعلّها استرفدته من العربيّة. وحجّتنا لهذا لسان العرب، فقد جاء فيه: أراد إرادة الشيءَ: أحبّه وعُني به، ورغب فيه.
وإذن «أحبّك»: أريد أن تكوني لي. وهذا إنّما يناسب في الظاهر رغبة في التّوحّد أو التّملّك أو الامتلاك. على أنّ الأمر وقْفٌ على نوع الحبّ الذي نختبر، والذي يشبّهه هارتمان بـ»عاصفة ربيعيّة هوجاء». فلعلّ الصديق العاشق لا يحبّ إلاّ نفسه! وهذا ما يسوّغ رغبته في ما ليس لديه، أي ما ينقصه، فيريد أن يحوزه.
بِمَ أختتمُ هذا البوح؟ أبترتيلة الصداقة لجيل رومان: «نحن لا نعرف ما الصداقة/ لم نقل عنها سوى حماقات. عندما أخلو إلى نفسي، فإنّي لا أعلم علم اليقين أين أنا الآن. وكلّ جسارتي على العالم، لا تفضي إلاّ إلى عجز./ على أنّي هادئ في هذه اللحظة./ أقول ونحن الاثنيْن، حيث أنّا هنا معا، صحبةَ هذه الشمس، صحبة هذه الروح، هذا هو ما يسوّغ كل شيء، ما يسلّيني عن كلّ شيء».
أم بأبيات أبي تمّام:
مَن لي بإنسانٍ إذا أغضبته/ وجهلتُ كان الحِلمُ ردّ جوابهِ
وإذا طربتُ إلى المُدام شربتُ من/ أخلاقه وسكرتُ من آدابهِ
وتراهُ يصغي للحديث بقلبه/ وبسمعهِ ولعلّه أدرى بهِ.
بيْد أنّ جنّ سقراط الصوت الباطني الذي كان الفيلسوف يزعم أنّه يسمعه في نفسه وينهاه عمّا يعتزم من أفعال طائشة، قد يخون صداقتي لك أيّتها المرأة؛ وهل أنا إلاّ عربيّ تونسيّ من غُزيّة؟
نقلا عن القدس العربي