اقترن الأدب -والكتابة اجمالاً- بالحُرْفَة، أي الفقر والفاقة والعَوَز. وفي العامية نقولها: حِرَاف، أي افلاس الجيب أو ضيق ذات اليد. فلم تقترن حِرفة بحُرفة كمهنة الكتابة، ولم يُعرَف عن ماهنين ارتباطهم المُستدام بحالة الضنك في العيش كالتي عُرِفَ بها أهل الفكر والحبر.
(1)
دهش أحدهم لمعرفته أن كاتباً كبيراً يسكن بيتاً حقيراً، وبالايجار. وقد قال له الكاتب:
– سيدي الفاضل.. إن الكلام رخيص، لكن مواد البناء غالية الثمن!
اقترن الأدب -والكتابة اجمالاً- بالحُرْفَة، أي الفقر والفاقة والعَوَز. وفي العامية نقولها: حِرَاف، أي افلاس الجيب أو ضيق ذات اليد. فلم تقترن حِرفة بحُرفة كمهنة الكتابة، ولم يُعرَف عن ماهنين ارتباطهم المُستدام بحالة الضنك في العيش كالتي عُرِفَ بها أهل الفكر والحبر.
وهذا المشهد ينطبق على الغالب الأعمّ من هؤلاء، إلاَّ من رحمَ ربي ورزقهم من باب آخر كالارث أواللُقْيَة، أو من قرَّبهم السلطان إلى الايوان، أو من ألقت بهم دعوة الوالدين في مهبّ الرزق الخفي، أو من زاولوا -إلى جوار الكتابة- مهنة أخرى أو “شغلة” ما!
ومن الصور المُجسِّدة للعنة الكتابة ما يحكيه الفيلسوف الاسباني أونا موفو عن واقعة صديقه الطبيب الذي كان بارعاً في مهنته، وكان له طابور طويل من الزبائن ورزق وفير من زياراتهم، غير أنه قرَّر في لحظة ابليسية أن يزاول الكتابة الأدبية، فراح يكتب القصة التي لم يجد القراء فيها أية متعة، ولهذا السبب أمتنع مرضاه عن ارتياد عيادته، فبارت مهنته بواراً كاسحاً وكانت نهايته انهياراً فادحاً.
ويوماً فيوم، يصادفني زميل قديم ترك حِرفة الصحافة إلى سواها، فاذا به قد “زَبَط” الفقر وهجر “الحِراف” وصار من حَمَلة دفتر الشيكات، فيما لا نزال من حَمَلة الأقلام والأحلام والآلام.
وسألني صديق مرةً في هذا السياق: لو قُدِّرَ لك أن تعود إلى نقطة البداية، فأية حِرفة كنت ستختار؟
ووجدتُني أُصعق من إدراكي بأنني كنت سأختار الحِرفة الملعونة ذاتها!
(2)
قال أحدهم ذات يوم: كلمة رقيقة واحدة أصغي اليها في حياتي، خير عندي من صفحة كاملة في جريدة كبرى، كلها تمجيد وتوقير، بعد أن أكون قد شبعت موتاً!
وها نحن اليوم نعيش الهاجس نفسه.. أم تراه هو الهاجس يعيشنا!
رموزنا وأعلامنا وشواهدنا يتساقطون موتى يوماً اثر يوم، بعضهم بالسكتة أو الذبحة، وبعضهم بالسرطان أو سواه من خبيث الداء ومُستعصي الدواء، فتتساقط خلفهم -بعد سويعات على رحيلهم- مقالات النعي وقصائد الرثاء وبرقيات العزاء!
كأنَّنا لا نذكر محاسن المرء إلاَّ بعد أن يخطفه جناح الموت.. أو كأنَّنا لا نشعر بتقديرنا له وتوقيرنا نحوه الاَّ بعد أن يذوب عزرائيل في هواه. لماذا؟ .. لست أدري!
غير مرة -وهذا هو ديدننا الثابت- نتجاهل هذا الأديب الذي أثرى ذائقتنا الجمعية ووعينا وثقافتنا، أو ذاك المبدع أو الفنان الذي أشعل في ركام ركودنا الجمالي ويباسنا الحضاري جذوة التوهُّج، بل ننسى أو نتناسى مجرد حضوره الروتيني في العادي من يومياتنا والهامشي من واقعنا.. ولكننا، في اللحظة التي يصل إلى مسامعنا نبأ وفاته، نجدنا قد استنفرنا طاقاتنا الجبارة وقدراتنا المهولة ومواهبنا الفذَّة لمدحه الزائف وتكريمه الخاطف والتغنِّي بتراثه النفيس.. ثم نعود إلى ثرثراتنا الجوفاء أو سباتنا المزمن، في انتظار نبأ وفاة مبدع آخر!
فماذا تنفع هذا المبدع قصيدة عصماء أو خطبة صمَّاء بعد أن يكون قد شبع موتاً؟
وماذا يفيده وسام أو مهرجان بينما قلب الثرى يحتضن قلبه الذي طالما طواه الحزن؟
وهل قَدَر الأديب أو الفنان أو الكاتب في هذا البلد أن يظل نسياً منسيا طوال حياته، ومُحتفياً به بعد مماته؟
إن قُبلة الحياة لا نبض لها إلاَّ في جبين المرء الحي، أما بعد أن يلفظ آخر أنفاسه فلا حياة فيها إلاَّ في القصص الرومانسية وحكايات جدَّتي!
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.