لا بد علينا أن نعرف ما هو موقف الإسلام في قضية “علاقة الجن بالأنس يلجأ كثير من الناس عند إصابة أحد أهاليهم بأي مرض نفسي إلى أن سببه يرجع إلى العالم الغيبي بمعنى “أصابه الجن”، وهكذا استمر الناس من قديم الزمان بإرجاع سبب أي مرض إلى الغيب وكلما تقدم العلم كشف بعض هذه الأسباب وأصبحت معروفة لدى أهل العلم المختصصين في ذلك ،ولكن للأسف يصر بعض عوام المسلمين إلى التفسيرات الخرافية القديمة ظناً منهم أن هذا هورأي الدين الإسلامي وهذا غلط ووهم كبير، ونظراً لاتساع المشكلة بين عوام الناس فقد كتب العلماء المعاصرون كثيراً حول هذه القضايا.
ولذا، لا بد علينا أن نعرف ما هو موقف الإسلام في قضية “علاقة الجن بالأنس”، أين تبدأ وأين تنتهي وما هي حدود تأثيرهم على بني الإنسان، هل لهم تأثير حقيقي أم لا، وما هي أهم الأوهام والتلبيسات التي يعتقدها الناس بالنسبة للجن.. كان قد تحدث عن هذه القضية بعض الفقهاء المعاصرين كالشيخ شلتوت والشيخ الغزالي ونفوا تلك الخرافات والأوهام التي يتناقلها الناس، وهذا المقال هو خلاصة كلامهم في تلك القضية الشائكة والتي أخذت مساحة في الجدل بين الناس.
يتحدث كثير من الناس أن في العالم ـوراء الإنسان الناطق المفكر العاملـ نوعا آخر غيبيا لا ترى ذاته، ولكن يعرف بآثاره وتصرفاته، وله من التصرفات ما يتصل بالإنسان وبكثير من نواحي الحياة، وله وراء ذلك خاصية الإخبار بالمغيبات، والقدرة على أن يلبس جسم الإنسان، فينطق بلسان الإنسان، ويتحرك الإنسان بتحركه، كما أن للإنسان وسائل “تلاوات وأدعية وتعاويذ” يستعين بها على استحضاره كلما أراد، وعلى تسخيره في قضاء ما يريد من حاجات وأنباء، وأن هذا النوع هو المعروف في لسان والكتب السماوية باسم “الجن”.
وبينما يتقاسم الناس هذين الرأيين في الجن وما وراء المادة ـوهما كما ترى على طرفي نقيض إفراط وتفريطـ تجيء الكتب السماوية، وتأخذ من كل منهما بطرف، وتحدد الواقع الذي يعلمه خالق الكون ومنزل تلك الكتب، وترد الأمر في “الجن” إلى الحد الوسط، وتقرر الواقع الذي فرطت الفكرة الإنسانية، وهو أصل الوجود لهذا النوع، فتقرر وجوده، وتقرر له خواص ذاتية أخرى، وتنفي عنه هذه الخواص التي أضافتها إليه الفكرة الإنسانية فيجانب الإفراط.
جاءت الكتب السماوية، بعبارات واضحة لا تحتمل التأويل، بأن في العالم خلقا آخر غير الإنسان لا ترى أشباحه، ولا تعرف حقيقته، وصرحت بالعناوين الخاصة بهذا النوع. فذكرت الملائكة وجعلت الإيمان بها عنصرا من عناصر الإيمان، ثم ذكرت أعمالهم وفصلتها، ثم وصفهم بالطاعة الدائمة التي خلقوا بها وأنهم (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون). التحريم 6
وذكرت الجن وجعلتهم نوعا مقابلا للإنسان، يندرجون معه تحت عنوان “الثقلين”، وخاطبتهم وتحدثت عنهم، في المسؤلية، والمؤاخذة، والمصير، كما خاطبت الإنسان وتحدثت عنه في كل ذلك (يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا). الأنعام 130؛ (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان). الرحمن33؛ (سنفرغ لكم أيه الثقلان ). الرحمن34؛ (ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس، وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا ،قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم ). الأنعام 128.
وكما جاء القرآن بأصل وجودهم جاء بما يرشد إلى صلتهم بالناس، وأنها لا تعدوا “الوسوسة والتزيين”على نحو ما يحدث للناس من الناس، وأقرأ في ذلك من سورة الناس (من شر الوسواس، الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس). وأقرأ في ذلك أيضا ما جاء على لسان الشيطان نفسه ـوهو من الجن بنص القرآنـ (وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ). إبراهيم 22.
وإذن فليس للجن مع الإنسان شيء وراء الدعوة والوعد والوسوسة والإغراء والتزيين (فوسوس لهما الشيطان ) الأعراف20؛ (قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين ). الحجر39.
وكما جاء في هذا القرآن، جاء فيه أيضا ما يقطع بأن الذين يتأثرون بوسوسة الجن وإغوائهم إنما هم فقط ضعاف العقول والإيمان، أما أقوياؤهما فهم بعقولهم وإيمانهم بعيدون عن التأثر بها، وقد استثنى الله من المتأثرين بها عباده المخلصين وقال (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) الحجر42.
أما ما وراء الوسوسة والإغواء ـمن ظهورهم للإنسان العادي بصورتهم الأصلية أو بصورة أخرى يتشكلون بها ومن دخولهم في جسمه واستيلائهم على حواسه ومن استخدامه إياهم في جلب الخير ودفع الشر واستحضارهم كلما أراد ومن استطلاع الغيب عن طريقهم ومن التزوج بهم ومعاشرتهم وغيرذلك مما شاع على ألسنة الناسـ فهذا كله مصدره خارج عن نطاق المصادر الشرعية ذات القطع واليقين ،وقد صدّق كثير من الناس ـفي كل العصورـ كثيرا مما يسمع من أحاديث الجن أو يتخيل من تصرفات منسوبة إليهم، صدقوا ظهورهم للإنسان العادي وتشكلهم بغير صورتهم وصدقوا محادثتهم للإنسان ودخولهم في جسمه وصدقوا استخدامه إياهم في جلب الخير ودفع الشر، وفي العلم بالمغيبات.
صدق كثير من الناس ما شاع من ذلك عن الجن وتناقلوا فيه الحكايات التي ربما رفعوها إلى السلف واستمروا على ذلك حتى جاراهم الفقهاء وفرضوا صحته، واتخذوا من هذا الفرض مادة جعلوا منها حقلا للتدريب على تطبيق كثير من الأحكام الشرعية عليهم وكان منهم من تحدثوا عن صحة التزويج بهم وعن وجوب الغسل على الإنسية إذا خالطها جني وعن انعقاد الجماعة بهم في الصلاة وعن مرورهم بين يدي المصلي وعن روايتهم عن الإنس ورواية الإنس عنهم وعن حكم استنجاء الإنس بزادهم وهو العظم وعن حكم الأكل من ذبائحهم، إلى غير ذلك مما نراه منشورا في كتب الفقه أو نجده في كتب خاصة ذات عناوين خاصة بالجن.
وإني أعتقد أن ذلك من فقهائنا لم يكن إلا مجرد تمرين فقهي، جريا على سنتهم في افتراض الحالات والوقائع التي لايرتقب وقوعها أو التي لا يمكن ان تقع. وإذن ففروض الفقهاء التي لم يقصدوا بها إلامجرد التدريب الفقهي لا تصلح أن تكون دليلا أو شبه دليل على الوقوع والتحقق فلنتركهم على سنتهم يفترضون ومردنا في ذلك إلى القرآن الكريم.
والقرآن الكريم يمتن الله فيه على الناس بنعمة الأزواج وبأن جعلهن من جنسهم وجعلهن سكنا ومودة ورحمة (والله جعللكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) النحل72 (ومن آياته أن خلقلكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) الروم21، وهذا يقطع حبل الشك في فساد القول بإمكان التزوج منهم فضلا عن صحته أو فساده. وكذلك يحكي الله في القرآن ما تحدث به الجن إلى قومهم في شأن الإنس، الذين كانوا قبل الرسالة يعتقدون أن للجن سلطانا عليهم، فيعوذون برجال منهم يخلصونهم من سلطان الجن بما يزعمون لأنفسهم من سلطة استخدام الجن وسلطة منعهم من أذاهم، ولنصغ إلى الجن وهم يتحدثون إلى قومهم في عقيدة أنهم يعلمون الغيب، وأن أناسا يستخدمونهم في ذلك فيعلمون منهم ما تسوقه المقادير الإلهية ثم يعلنون أنها عقيدة فاسدة وأن الغيب لله وحده (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهمربهم رشدا ) الجن10، وإذا كان هذا حديثهم عن أنفسهم بالنسبة لمعرفة الغيب الذي جاء فيه قوله تعالى (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) الجن26، وقوله تعالى في جن سليمان (فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوافي العذاب المهين) سبأ14. إذا كان هذا حديثهم بالنسبة لمعرفة الغيب وكان حديثهم عن أنفسهم بالنسبة لسلطانهم على الإنس وأن هذا وذاك موضع إنكار منهم أنفسهم كما حدث القرآن صرنا إلى يقين لا يمسه ريب بأن الجن لا يعلمون الغيب ولا يقدرون على الإيذاء الاتصالي أو التلبسي.
ومع هذا كله قد تغلب الوهم على الناس ودرج المشعوذون في كل العصور على التلبيس وعلى غرس هذه الأوهام في نفوس، استغلوا بها ضعاف العقول والإيمان ووضعوا في نفوسهم أن الجن يلبس جسم الإنسان وأن لهم قدرة على استخراجه ، ومن ذلك بعة الزار وكانت حفلاته الساخرة المزرية ووضعوا في نفوسهم أن لهم القدرة على استخدام الجن: في الحب والبغض، والزواج والطلاق، وجلب الخير ودفع الشر، وبذلك كانت “التحويطة والمندل وخاتم سليمان” . استخدموهم في إظهار الغيب ، من مسروق ضائع ، أو مستقبل مخبوء، واستخدموهم في العلاج استغلوهم بكل ذلك في كل شيء وصارت لديهم مهنة منها يتعيشون وللمال يجمعون وبالعقول يعبثون.
وقد ساعد على ذلك طائفة من المتسمين بالعلم والدين وأيدوهم بحكايات وقصص موضوعة أفسدوا بها حياة الناس وصرفوهم عن السنن الطبيعة في العلم والعمل عن الجد النافع المفيد.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.