القدس ملهمة الشعراء والفنانين
القدس تاريخ إبداعي عريق
تحتل مدينة القدس منزلة كبيرة في الوجدان العربي، بوصفها روح فلسطين وعاصمتها التاريخية، ورمزا قوميا ودينيا وإنسانيا، ولذا لا غرابة في أن أصبحت علامة كبرى، واستعارة اجتهد المؤرخون والشعراء والفنانون في تسميتها أو وصفها بنحو مئة اسم وصفة، شكّل كل منها علامة تحيل على مدلولات لا حصر لها. وقد وقف أحد الباحثين على هذا التعدد الدلالي لاسم المدينة في الشعر العربي، قديمه وحديثه، فوجد أن اسم “القدس” حظي بالنصيب الأكبر، يليه اسم “المسجد الأقصى”، ثم “أور سالم”، فـ”المسرى”، فـ”مهد عيسى”.
القدس تاريخ إبداعي عريق
تفاوت حجم تناول القدس في الأدب العربي تفاوتا شديدا من جنس إبداعي إلى آخر، فبينما كتب الشعراء المعاصرون مئات القصائد عنها، نجد نقصا فادحا في تناول الأجناس الإبداعية الأخرى لها كالرواية والقصة والسينما والتلفزيون والمسرح، فلا تكاد تُذكر للروائيين العرب أعمال تدور في مدينة القدس سوى بضعة أعمال.
القدس والفنون
على غرار الكتابات السردية لا يُذكر في السينما العربية إلا فيلم “الناصر صلاح الدين” ليوسف شاهين، و”باب الشمس” ليسري نصرالله، و”القدس في يوم آخر”، و”زواج رنا” لهاني أبوأسعد، و”تذكرة إلى القدس” لرشيد مشهراوي، و”آخر الصور” لأكرم صفدي، مقابل نحو 127 فيلما من إنتاج شركات أوروبية وأميركية وإسرائيلية، أغلبها يدافع عن القدس باعتبارها “مدينة يهودية”، أو يتخذ القدس فضاء لأحداث ليست لها علاقة بالقضية الفلسطينية أو الاحتلال الإسرائيلي.
وفي مجال الدراما التلفزيونية لم ينتج العرب أكثر من بضعة مسلسلات عن القدس، منها المسلسل الأردني “فندق باب العمود”، تأليف أمين شنار، وإخراج عدنان الرمحي في العام 1968، ومسلسلان كلاهما بعنوان “القدس”، الأول للمخرج الأردني أحمد دعيبس، والثاني للسوري باسل الخطيب، و”سفر الحجارة” للمخرج السوري يوسف رزق.
وإذا نظرنا إلى المسرح فلا نجده أفضل حالا من الرواية، رغم أنه كان رائدا في تناول قضية القدس، ففي العام 1921 قدمت في مدرسة الخضرية ببغداد أول مسرحية عن فلسطين بعنوان “صلاح الدين الأيوبي وفتح القدس”، أخرجها السياسي العراقي أرشد العمري (أمين العاصمة آنذاك)، الذي أصبح رئيسا للوزراء.
الآن تتصدر القدس المشهد العربي والإسلامي والعالمي، لما تمثله من رمز حضاري وثقافي استلهم منه المبدعون
وفي منتصف الستينات من القرن الماضي كتب الأديب اليمني على أحمد باكثير عملا ملحميا طويلا بعنوان “ملحمة عمر” يتألف من تسعة عشر جزءا، ويقع في 1000 صفحة، ويضم 100 شخصية رئيسة، وتحتل القدس فيه مكانة كبيرة، فهي بيت القصيد كما يقول باكثير.
وثمة النص المسرحي شديد الأهمية الذي كتبه محمود دياب بعنوان “باب الفتوح” في العام 1974، وجرى إخراجه في أغلب الدول العربية، وكذلك العرض المصري “لن تسقط القدس” تأليف شريف الشوباشي وإخراج فهمي الخولي.
تصدرت مدينة القدس واجهة المشهد الثقافي العربي بمناسبة اختيارها عاصمة للثقافة العربية لعام 2009، فأقيمت أكثر من فعالية أدبية وفنية واحتفالية في العالم العربي استحضارا لها في الذاكرة العربية، ومواجهة لتهويدها على يد الاحتلال الإسرائيلي، والتأكيد على حق استعادتها لتكون عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة.
والآن تتصدر القدس المشهد السياسي العربي والإسلامي والعالمي، وتشعل غليانا في الشارع العربي إثر قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب نقل سفارة بلاده إلى المدينة، اعترافا منه بكونها عاصمة لإسرائيل، في حين أنه قرار يُعدّ اعتداء صارخا على حقوق الشعب الفلسطيني والأمة العربية.
من بين الأعمال المسرحية المهمة التي تناولت قضية القدس، وقُدّمت في العاصمة الأردنية عمّان وفي أكثر من مهرجان مسرحي عربي، عرض “بلا عنوان”، تأليف مفلح العدوان، وإخراج مجد القصص.
على غرار الكتابات السردية لا يذكر في السينما أو الدراما أو المسرح عربيا ما يهتم بالقدس كثيمة فنية
يقوم العرض على ثلاث ركائز فنية درجت المخرجة على استخدامها في تجاربها المسرحية السابقة، هي أولا الأداء الجسدي الحركي والكيروغرافي (الرقص التعبيري) للممثلين، الذي تميل إلى تسميته بـ”فيزيائية الجسد”، وهو أداء ينزع إلى المشهدية أو مسرح الصورة، ويمزج بين الحركات التجريدية ذات المنحى الرمزي والحركات اليومية المستمدة من التراث الشعبي، وإلى حدّ ما الرقص الباليهي والرقص الحديث.
الركيزة الثانية تتمثل في توزع بنية العرض على لوحات مستقلة لا تجمعها حبكة درامية، ولا تتنامى وفق منطق سببي، كما في العروض التقليدية، بل ينتظمها رابط جمالي ودلالي، وتسير في خط تراكمي.
أما الركيزة الثالثة فهي تصدر الغناء الحي الأوبرالي والشعبي، وتناغمه مع ألوان من الغناء والموسيقى والمؤثرات الصوتية المسجلة التي أبدع في تلحينها وإعدادها الموسيقي وليد الهشيم.
رؤية مسرحية
حاول العرض، في إطار فكرته العامة، الرد على مقولة لرئيس بلدية القدس الأسبق الصهيوني تيدي كوليك مفادها أن الفلسطينيين “لن يبقى لهم مع بداية القرن الحادي والعشرين ما يفاوضون عليه في القدس غير 7 بالمئة”، من خلال التأكيد على أن القدس كانت وستبقى عربية. وقد جسّدت هذا الهدف حكاية أم مقعدة، تكاد لا تقوى على تحريك كرسي العجلات المحطم، تروي لرجل ضرير (يؤدي دوره المطرب رامي شفيق)، هو الشاهد والشهيد، قصتها مع أبنائها السبعة: منهم من أُبعد، ومنهم من استشهد، ومنهم من صمد وقاوم، ومنهم من خان. ويقدم العرض شخصيتين نسائيتين تمثل كل منهما المدينة المحتلة: الأولى (تؤديها ريما نصر) تمثّل الجهة الشرقية من القدس والمسلمين والحاضر القدسي، والثانية (تؤديها الأوبرالية نادين نشوان) الجهة الغربية من القدس ونضال المسيحيين مع المسلمين والتاريخ القدسي منذ الكنعانيين حتى الآن.
وصوّرت السينوغرافيا المتحركة، بشكل تعبيري، 7 أبواب للقدس، تتحول إلى جدران تارة وإلى سجون تارة أخرى من خلال توظيف سيميائي متقن، يقابلها العدد نفسه للأبناء الذين استشهد واحد منهم وبقي الستة (يؤدي أدوارهم: موسى السطري، بلال زيتون، نبيل سمهوري، أحمد الصالحي، أحمد الصمادي، ومحمد عوض) الذين يجسدون على المسرح شخصيات بأزياء مختلفة؛ محتلين، خطباء عربا وأصحاب شعارات، وفلسطينيين من أبناء القدس، في سياق تحول دلالات لوحات العرض من زمن الاحتلال الأول، حيث يجري اغتصاب رمزي للشخصيتين النسائيتين، إلى زمن الشعارات الجوفاء والعجز العربي في مواجهة النكسة، إلى الحاضر الذي تدعو فيه القدس أبناءها المخلصين إلى التمسك بخيار الصمود والتحدي والمقاومة لتحريرها.