ثم هذبتها وأخفتها في إنسان هذا العصر.
قبل فترة كنت كتبت أن التوحش يعد صفة بشرية أصلية لم يكتسبها البشري من الظروف المحيطة به؛ وإن كانت هذه الظروف قد عملت على اخراجها وإبرازها في الإنسان القديم.
ثم هذبتها وأخفتها في إنسان هذا العصر.
وتطرقت لأمثلة كثيرة من أفعال التوحش كالمجازر التي يبتدعها الإنسان وتقشعر لها الأبدان ..
ورغم تواري هذه النزعة عن غالبية البشر بفعل تطور السلوك إلا أنها لا زالت تظهر بفجاجة مرعبة في الحروب والجرائم ضد الإنسانية فردية أو جماعية.
لكنني هنا أذهب لتأكيد وجودها في نفس كل إنسان بطريقة ما وإن غلفتها الرقة والقشور الناعمة واطلقت عليها مسميات أكثر إنسانية كالإحساس المفرط والشاعرية.
وما مرضا السادية والمازوخية إلا مظهران من مظاهر التوحش البارزة في الإنسان.
ويوجدان في الغالبية من البشر في أدنى صورهما ولا يعدا مرضا مقلقا إلا في أقصى حالاتهما حين يصل للإيذاء الجسدي بالنفس أو الآخر.
بمعنى أن في داخل كل إنسان شخص يتلذذ بإيلام نفسه أو إيلام الأخرين حتى بإلقاء عبارة جارحة أو تهمة باطلة.
أو في رؤية مشهد محزن أو مخيف أو حرمان النفس من حق كعقاب ذاتي.
يلاحظ في البشر ميلهم لاصطناع الحزن والألم بإستلذاذ عجيب؛ رغم أن الأرض تزخر بمظاهر هذا الحزن والألم الذي صنعته الفئة الأشد جرما ووحشية منهم.
إلا أن صفة الوحشية الناعمة تظل ملازمة للإنسان في صور شتى في حياته ليرفع أمام نفسه راية مظلومية الذات ضد تعسفات التفكير والشعور والتصرف أيضا..
فهو الكائن الظالم لنفسه ليس بارتكاب الموبقات فقط وانتظار عقاب السماء.
وإنما بلوم الذات وتأنيبها وحرمانها من حقوقها الطبيعية إمعانا في استجلاب شفقة النفس أو التلذذ بتعذيبها.
ولعل أرق الناس أفئدة هم أولئك الذين نأوا عن إيلام الآخرين وطفقوا يعذبون قلوبهم عنوة باصطناع المآسي والأحزان من حولهم بدافع الشعور الزائد ودافع الاستمتاع بهالة الحزن الجميل.
ونصل إلى حقيقة أن أرق الناس قلبا معذب لنفسه..
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.