فكر وثقافة

“التنافس” على تأريخ القدس: المعايير والنتائج

محمد م. الارناؤوط

 إذا كانت دمشق “قلب العروبة” التي همدت فإن عمّان “قلب القدس”  إذا كانت دمشق “قلب العروبة” التي همدت فإن عمّان “قلب القدس” لاعتبارات كثيرة  تتعلق بالأرض والسكان والتاريخ والسياسة (“الوصاية الهاشمية” على المقدسات مع عدم اعتراف إسرائيل بها) . ومن هنا فإن الهبّة التي شهدتها عمان على مستوى الشارع والجامعات طيلة يوم الخميس 7/12 تنديدا بقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل لم نر له مثيلا في العواصم العربية المجاورة . فعمّان هي أكبر مدينة تجمع الفلسطينيين أو ذوي الأصول الفلسطينيية ، كما أن الأردنيين إن فاخروا بشيء فهو دفاع القوات الأردنية بقيادة عبد الله التل في صيف 1948 عن القدس القديمة التي نجت بفضل شهداء الجيش الأردني . ففي أول كتاب يوثق “أول مئة شهيد” للجيش الأردني منذ تأسيسه في 1921 يتضح أن 98 منهم استشهدوا في القتال دفاعا عن القدس .

 في هذا السياق لا يعد من المستغرب أن تكون عمان مركزا  لمراكز ومؤسسات عديدة تحمل اسم القدس (مركز القدس للدراسات السياسية الخ) وأن  تصدر فيها كتب باستمرار عن القدس بغض النظر عن قيمتها وجديدها . وفي هذا الوضع لا تقصّر دور النشر في الاهتمام بالنشر على اعتبار أن كل كتاب يتضمن في عنوانه اسم القدس يلقى من يشتريه من المؤسسات والأفراد ، ويقام له “حفل إشهار”  للترويج له  يجد من يتحدث عنه بتقدير مبالغ فيه الخ.
صورة الأقصى والترويج
  ويمكن القول إنه لا يمرّ شهر دون صدور كتاب في عمّان عن القدس مع صورة الأقصى في الغلاف معزولا عن واقعه الحالي على اعتبار أن هذا يساعد في تسويق الكتاب . ولكن هنا يفترض أن نميّز بين الإصدارات الأكاديمية والإصدارات الأخرى ، حيث أن دور النشر  ترحب بنشر أي كتاب عن القدس بغض النظر عن قيمته طالما أنه يحظى بدعم جماعة أو جمعية ما في عمّان أو خارجها .
  ولكن ماذا عن الإصدارات الأكاديمية ؟
 يلاحظ هنا نوع من عدم التنسيق أو “التنافس” على السوق أيضا . فبعض الجامعات (الجامعة الأردنية وجامعة اليرموك وجامعة العلوم الإسلامية العالمية الخ)  تدرّس مادة القدس بمسميات مختلفة  كمادة اختيارية أو إجبارية على مستوى الجامعة بناء على قرار اتخذه اتحاد الجامعات العربية في 1994 القاضي بإلزامية تدريس الطلبة تاريخ القدس ، ولم ينفذ سوى في عدد محدود من الجامعات .
ومع اوتونومية الجامعات الأردنية يُترك لكل قسم في الجامعة أن يختار “الكتاب المناسب” للشُعب العديدة التي يسجل فيها الطلبة ، وبالتالي فإن دار النشر يمكن أن تصدر طبعة جديدة في كل عام حسب الإقبال على الكتاب . وفي هذا السياق ينشط بعض أعضاء هيئة التدريس على تأليف كتاب والترويج له في الجامعة التي يعملون فيها أو في الجامعات الأخرى على أساس أنه الأفضل .
  في هذا السياق صدر مؤخرا  كتابان أكاديميان (أي أن مؤلفي  الكتابين ممّن يعملون في الجامعات) عن القدس بعنوانين متشابهين ، الأول “تاريخ مدينة القدس عبر العصور – منذ الألف الرابع قبل الميلاد إلى الوقت الحاضر” من تحرير محمد عدنان البخيت وحسين القهواتي (الجامعة الاردنية 2017) و ” القدس في العصور القديمة والمتوسطة والحديثة” من تحرير محمد عواد (دار المسيرة 2017) .
انقطاع مفاجىء
وحسب مقدمة الكتاب الأول للمحررين فإن الكتاب كان بمبادرة من رئاسة الجامعة الأردنية  وأُلّف “وفق المعايير العلمية التي تعتمدها عمادة البحث العلمي في الجامعة الأردنية” (ص 7) . ويسجل للكتاب أنه اشتمل  في القسم الأول المتعلق بالتاريخ القديم على مشاركات لباحثين أجنبيين (توماس فيبر وروبرت شك)  بالاضافة إلى باحثين معروفين (زيدان كفافي وعمر الغول) وهو ما أعطى هذا القسم مصداقية أكثر ، وهو ما كان يفترض أن يشمل أيضا القسم المتعلق بالتاريخ الوسيط . وعلى الرغم من أن القسم الحديث المتعلق بالحكم العثماني مغطى بشكل جيد مع عدنان البخيت ونوفان السوارية وهند أبو الشعر بالاستناد إلى المصادر العثمانية إلا أنه لدينا انقطاع مفاجىء في هذا القسم عن أمرين مهمين : حكم محمد علي باشا لبلاد الشام 1831-1840 ونتائجه بالنسبة لبروز اليهود والقنصليات في القدس ودورها اللاحق ، مع توفر المصادر والدراسات الكثيرة عن ذلك ، وتجاهل الوجود اليهودي الجديد المرتبط بالصهيونية المبكرة ثم بالصهيونية السياسية التي تبلورت مع مؤتمر بال 1897 وما تحقق على الأرض من مستوطنات حتى 1917 . ويبدو الأمر مستغربا مع وجود باحثين أردنيين معروفين كتبوا ونشروا  في هذا المجال مثل عبد العزيز عوض وتلميذته فدوى نصيرات (مع الفارق في مقاربة كل واحد منهما).
وهكذا بعد هذه الفجوة الكبيرة ينتقل الكتاب فجأة إلى “القدس تحت الاحتلال والانتداب البريطانيين 1917-1948” لصالح  علي الشورة ثم فجأة  إلى “ممارسات إسرائيل المتعلقة بتهويد القدس وإجراءاتها بعد حرب 1967” لسمير مطاوع و “القدس والمقدسيون في القانون الدولي” لأنيس القاسم و”دور المملكة الأردنية الهاشمية في رعاية المقدسات الدينية في المدينة” الذي أعدته “اللجنة الملكية لشؤون القدس”.
القدس والمنهاج
 وبالمقارنة مع هذا الكتاب نجد أن الكتاب الثاني يتألف من سبعة فصول كتبها أشهر الأكاديميين الأردنيين في التخصصات المذكورة مثل معاوية ابراهيم عن “القدس في العصور التاريخية القديمة” و عمر الغول في “القدس في اليهودية والمسيحية والاسلام” ونعمان جبران في “الفتح الإسلامي العربي للقدس” وعبد العزيز عوض في “القدس في العصر الحديث 1800-1918” وعلي محافظة في “النكبة وأثرها على القدس وفلسطين ” (1918-1948) ثم “النكبة وأثرها على القدس وفلسطين”(مابعد 1967) وأخيرا أحمد نوفل “القدس تحت الاحتلال الإسرائيلي”.
 أما فيما يتعلق بصلاحية الكتابين كمقررين لطلبة الجامعة فإن الأول يصلح لمادة في قسم التاريخ، وخاصة القسم الأول المتعلق بالتاريخ القديم، بينما الثاني أنسب للطلبة الذين يأتون من تخصصات مختلفة (الطب والصيدلة والحاسوب الخ) . ومع ذلك فإن مجرد اختيار أو فرض  كتاب بعينه ، وبالتحديد بما فيه ، على الطلبة يثير أكثر من مشكلة . فالطلبة الجدد القادمون إلى الجامعة لم يتحرروا بعد من قدسية الكتاب المدرسي الذين يسلّموا بكل ما فيه ويحفظوا كل ما فيه (سواء صدّقوا ذلك أم لم يصدّقوه) لكي يحصّلوا أعلى علامة ، وبالتالي فإن الجامعة تجعلهم يتعاملون مع هذا الكتاب بالأسلوب ذاته ، أي على الطالب أن يؤمن بكل ما فيه ويجيب على الأسئلة  من الكتاب فقط أو أن يغش أو يغشّش للحصول على أعلى علامة لرفع المعدل التراكمي .    
   في هذا السياق يمكن أن نفهم الجملة المهمة التي قالها د. عبد الباري الدرة (الرئيس السابق لجامعة الشرق الأوسط) في حفل إشهار الكتاب الثاني عن تدريس تاريخ القدس في الجامعات ، حيث أن ذلك يجب أن يكون “بطريقة غير مألوفة تثير التفكير الناقد” . ولكن هذا يندرج من باب التمني لأننا لا نجد في الكتابين المذكورين أي هامش أو مجال مفتوح ما يساعد على “التفكير الناقد” بل على التسليم بما يوجد وحفظه لأجل الامتحان .
   وربما يكمن الأمل في الجملة الأخيرة التي وردت في مقدمة المحررين للكتاب الأول (البخيت والقهواتي) من أن هذه الطبعة الأولى “تجريبية” وهي بانتظار الملاحظات ممن يدرّسون هذه المادة وطلابهم حتى تكون في وضع أحسن ، وهو ما نأمل أن يتحقق بطبيعة الحال .
نقلا عن المنبر العربي الثقافي “ضفة ثالثة”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى