لم يكن نظام صالح أيديولوجيًا بالمعنى الضيّق للكلمة، وبالتالي فقواعده الاجتماعيّة ارتبطت به عبر نمطٍ معينٍ من العيش لم يتجاوز اليمن علي عبدالله صالح بمقتله، ولن يتجاوزه على المدى القريب إلا بحلّ مسائل عالقة تتحدّد بنوع مرحلة التجاوز التي نبتغيها؛ فتجاوز صالح يمرّ بمرحلتين: ما بعد صالح، وبدون صالح.. واليمن الآن لا يزال في زمن صالح، على الرغم من مقتله، ولمّا يتجاوزه بعد. يمنُ “ما بعد” صالح يحوي الأخير، ويتأثر به، ويتشكّل تحت ضغط سياساته التاريخيّة التي اكتسبت مع الزمن وسائل تغذيةٍ ذاتيةٍ، لا تتأثر بقطع رأس النظام. وعليه، تنتمي المهمّات اللازمة للانتقال إلى ما بعد صالح، بالضرورة، إلى فئة المهمات العاجلة، في حين أن مرحلة اليمن “بدون” صالح، والقطع مع تاريخ سياساته، تعني حل الإشكالات التاريخيّة المزمنة، المرتبطة بالنظام وسياساته قرابة 40 سنة.
في مستوى الشأن العاجل ثلاثة أمور: القواعد الاجتماعيّة لنظام صالح، وحزب المؤتمر الشعبي العام، والقوات المسلّحة الموالية لصالح وعائلته.
لم يكن نظام صالح أيديولوجيًا بالمعنى الضيّق للكلمة، وبالتالي فقواعده الاجتماعيّة ارتبطت به عبر نمطٍ معينٍ من العيش، يرتكز على الأمن النسبي والفساد الإداري والتمييز المناطقي ووجود قنوات مفتوحة للحصول على الحقوق من تعليم ووظائف ومنح دراسيّة ومساعدات الضمان الاجتماعي وترقيات (وحتى أسطوانات الغاز أيام الأزمات الاقتصادية)، عبر الوجاهات القبليّة والاجتماعيّة في الأرياف و”العُقّال” في أحياء المدن، والتي تنتمي، في العموم، لحزب النظام.
“حزب المؤتمر الشعبي أقرب إلى المؤسسة المملوكة لصالح منه إلى حزب، شأن كل الأحزاب التي أُنشئت من داخل السلطة”
حين أدخل صالح الحوثيين إلى صنعاء، واجتاح معهم بقية المحافظات، اهتزت قواعد صالح، خوفًا من تغيير نمط حياتها بعد ما رأته من خطاب، وممارسات طائفية فاقعة، لكنها ظلّت تراهن على قدرات صالح، نظاما وشخصا في وضع حدٍ للحوثيين، متى لزم الأمر، لكن هذه القواعد انكسرت فعلًا بمقتل صالح، وكأنها تدرك، بالبصيرة الناتجة عن التجربة، حقيقة النظام المتركّز في شخص صالح، على الرغم من أشباه المؤسسات ضخمة الموارد التي أحاطت به. هذه القواعد بفعل التغوّل الحوثي، والإذلال المتعمّد لها، مستعدّة للاندماج في قواعد حكومة عبد ربه منصور هادي، إذا توفّر أمران: خطاب وطني إزاءها، يُطمئنها على مستقبلها، وتقدّم عسكري واضح على الأرض، يُضعف الحوثيين؛ فهي، قبل كل شيء، كانت قواعد نظام قمعي متغوّل، وفّر لها الشعور بالأمان النسبي، قبل أي شيء آخر، وإذا عجزت حكومة هادي عن إعطاء انطباعٍ بأنها تمثّل دولةً قادرة، سيسهل ابتلاع الحوثيين قواعد صالح بوسائل مختلفة، مثل التجييش الجهوي. ولدى هذه القواعد استعداد لمثل هذه النزعات، بحكم استبطانها ممارسات نظام صالح وخطابه الضمني، أو من خلال القمع المستمر والطويل الذي يدفع المقموع، في نهاية المطاف، إلى تقبّل واقعه، وإعطاء مسوّغات له.
بالنسبة إلى حزب المؤتمر الشعبي، علينا أولًا التذكير بأنه أقرب إلى المؤسسة المملوكة لصالح منه إلى حزب، شأن كل الأحزاب التي أُنشئت من داخل السلطة (خصوصا مع التحول النيوليبرالي في سياسات الدولة)، وكانت وسيلة ربط النظام بالمجتمع. رأينا حالاتٍ انهار فيها حزب النظام، بعد ثورات ديمقراطيّة في العالم العربي وأوروبا الشرقيّة (وهنا كانت أحزابًا إيديولوجية)، وسلوك قيادات هذه الأحزاب تقريبًا متطابق: إعادة الالتحام تحت اسم حزبيٍ جديد، يمثل مصالح الطبقة نفسها، مع اعتراف بالشّرط الجديد. ولكن حالة المؤتمر هنا مختلفة، كونه على وشك الانهيار، في ظل سلطة طائفيّة ووحشيّة، ولوجود قياداتٍ من خارج عائلة صالح في الخارج، وفي مقدمها رئيس الجمهوريّة. وقد اتخذت الحركة الحوثيّة، منذ بداياتها في صعدة، منهجًا شديد التوحش في تعاملها مع المجتمع، لا يعترف بأيّ توازنات اجتماعيّة أو سياسيّة، ويعتمد بشكل كُلّي على التأويلات العرقيّة والمذهبيّة للسلطة، وتراتبية البناء الاجتماعي. وعلى القواعد الطائفيّة الصلبة للحركة، وهذا يعني أن لا إمكانيّة أمام قيادات المؤتمر في الشمال، للولوج إلى عالم السلطة الجديدة بالوسائل المعتادة، خصوصا أن الأنباء الواردة من صنعاء عن التصفيات التي تقوم بها الحركة الحوثيّة ضد قيادات المؤتمر، وأقرباء صالح تقول إن الحركة بعد تخلصها من صالح تقوم بخَلْع كل الطبقة السياسيّة والعسكرية التي حكم بها الأخير بعد أن خلعت الطبقة البيروقراطيّة وكبار مسؤولي الدولة ببطء طوال ثلاث سنوات. وهكذا ليس أمام قيادات المؤتمر إذا أرادت أن يتم التعامل معها كقيادات حزبيّة إلا الالتحاق بجناح منصور هادي، وهو عمليًا الجناح الوحيد الباقي من حزب السلطة التاريخي، بعد مقتل صالح بقية القيادات المؤتمرية التابعة له، وتشريدها واعتقالها وتصفيتها. وفي كل الأحوال، المؤتمر الشعبي العام، بوصفه حزب النظام، الذي كانت موارد الدولة وإمكاناتها تسخر له منذ عام 1982 قد انتهى.
أما قوّات صالح العسكريّة، فليس واضحا حجمها وعتادها في الوقت الراهن، والمدى الذي وصلت إليه الحركة الحوثيّة في ابتلاعها، خصوصا بعد الحسم السريع وغير المتوقع لمعركتها مع
“نظام صالح لم يكن أيديولوجيًا بالمعنى الضيّق للكلمة” صالح. وفي كل الأحوال، يبدو أن الحركة الحوثيّة أقرب إلى ابتلاع هذه القوات وضمها من أي طرفٍ يمني آخر، لأن القيادة كانت مُركّزة في يد صالح، وابن أخيه، وكلاهما قد قتل، وعمليّات التنسيق بين الألوية الموزّعة على شمال اليمن، لتنظيم مقاومة ضد الحركة الحوثيّة، ومع وجود التداخل بينها وبين قوّات الحوثيين طوال ثلاث سنوات، تبدو صعبة للغاية، هذا بالإضافة إلى أن هذه القوات أظهرت براغماتيّةً عاليةً، فلم تندلع أية معركة مع الحوثيين، بعد مقتل صالح، وهذا أمر غير متوقّع، بالمقابلة مع سياقات مشابهة مثل السياق الليبي؛ فبعض كتائب معمر القذافي ظلّت تقاتل مليشيات الثوّار الليبيين بعد مقتل القذّافي، وعدد من أنجاله، وسقوط أغلب مساحة البلاد في قبضتها. ولا تبدو المحاولات الإماراتية والسعوديّة باستخدام أحمد علي صالح وسيلة لإعادة رصّ هذه القوات عمليّة على المدى المتوسط، لأنها تتعامى عن حقيقة التداخل بين قوات صالح والحوثيين طوال سنوات الحرب. هذا بالإضافة إلى أن السعودية تعتقد أن عودة أحمد علي ستلعب دورًا في استمالة القبائل، وهذا خطأ، وأقرب إلى الأوهام، بسبب الفشل السعودي في فهم المجتمع القَبَلي، وعلاقاته بالسلطة الحاكمة؛ فأحمد علي لم يكن يومًا شخصًا مقنعًا، أو ذا علاقات وطيدة مع شيوخ القبائل، بعكس والده وعلي محسن، والأخير (مع فشله البيّن) يمثل وحده ما يمكن أن تركن إليه القبائل في يوم ما في معركة قادمة مع الحوثيين، أما نجل صالح فلا يمتلك شيئًا ذا أهمية في المجتمع القبلي. وعليه، فإن إعادته إلى الواجهة ستكون ذات آثار مختلفة، وبعضها متناقض. وعسكريًا لن يكون له أثر حقيقي، إلا إذا افترضنا تقدّم قوّات الحكومة، وانتظار هذه الألوية الوقت المناسب للانتفاض في وجه الحوثيين، مطمئنة إلى وجود القيادة التي تدين لها في عقيدتها بالولاء، متمثّلة بقائدها السابق نجل صالح. ومع ذلك، لن تعطي الحركة الحوثيّة مساحة من الوقت لسيناريوهات كهذه، وستعمل بالتأكيد في الأيام المقبلة على إتمام عمليّات هضم (وتفكيك) ما تبقى من ألوية عسكرية موالية لصالح، وابتلاعها في بنائها العسكري المتعاظم. وهكذا، فليس أمام حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي وقت كثير، لتدارك هذا الإشكال، فإما إشعال جبهات القتال وتحقيق تقدّم ملحوظ أو ترك ألوية صالح لآلة الحرب الحوثيّة.
بمعالجة هذه المشكلات الثلاث، سيسهُل انتقال اليمن إلى ما بعد صالح، ويبقى نقاش بناء اليمن “بدون” صالح وتصفية تركته المُدمِّرة، وهذا حديث آخر.
نقلا عن العربي الجديد