“صاحب الابتسامة”.. رواية توثق معاناة الحرب في اليمن
آخر أعمال الروائية اليمنية فكرية شحرة
من يجهل مدارج الحرب القاسية في اليمن، يمكنه أن يعرفها هنا، بين دفتي هذه الرواية الآسرة، ومن فاته بعض مستجدات المرحلة التي تربو على سنتين يمكنه أن يجدها هنا، بين دفتي هذه الوثيقة المكونة من “192” صفحة، والتي اسمها “صاحب الابتسامة” أو بمعنى آخر “رواية-وثيقة”.
مهيب نصر
قد تكون الرواية سيرة ذاتية في قالبٍ روائي، وقد تكون وثيقةً تاريخية مكثفةً في رواية، كرواية “عالم صوفي” التي اختزلت بيراع كاتبها العبقري “جوستاين غاردر” تاريخ الفلسفة في أجمل حُلّةٍ يمكن للمرء أن يراها، كذلك هي روايتنا التي نود أن نبسط حديثنا عنها، كيما نقف على بعضٍ من شتائلها القانية، ولُبابها العاقل، فمن يجهل مدارج الحرب القاسية في اليمن، يمكنه أن يعرفها هنا، بين دفتي هذه الرواية الآسرة، ومن فاته بعض مستجدات المرحلة التي تربو على سنتين يمكنه أن يجدها هنا، بين دفتي هذه الوثيقة المكونة من “192” صفحة، والتي اسمها “صاحب الابتسامة” أو بمعنى آخر “رواية-وثيقة”.
في سرديةٍ ناضجة تموج بنا الأستاذة فكرية شحرة دون إبطاء، إذ لملمت شراع سفينتنا الغارقة “اليمن” في حلق قلمٍ نحيل، اتسع بمداركها ولمداركها، فتدفق كمحيطٍ هائج يشقق الرصاص المردوم، ويفجّر الماء المكضوم في باطنه، فسقى أودية جدبة، لم تعي مسار الأحداث، وجدد جدار الذاكرة التي تصحّرت أو كادت في روح ذاك السهل الآخر.
من تراجيديا السقوط الأول، إلى مراحل السقوط المتتابع في يفاع الوطن وفيافيه، مضت بنا والشمس في يدها اليمنى، وفي يسراها شمعة، لم تطفئ الشمعة خوفاً من انطفاء الشمس، تلك الشمس التي قد يغتالها الحوثيون عند الغروب بطلقة غرّير، وبين تلك الإضاءة المركّبة، تهادى المعنى، وتناسق المبنى، وانبجست روح الأرض تبحث عن نورها بين ذلك النور الذي أدهشها، ورابط بين طبقاتها وإلى الأبد.
وحيدٌ ذلك الشاب الذي يقطن في أعماق كل اليمنيين، كما هي عفراء في أعماق نساء ذلك الوطن المنكوب، لا قداسة للحب في مجتمع يقدّس الحرب، ولا حرمةً للقتل في مجتمعٍ يقتل تلك الشفاه الحارة التي تشقّقت بسبب إنعدام قطرات القُبَل، يهيمان في المدن المتشبعة بالخوف، ما بين صنعاء التي حملت سفاحًا، وعدن التي أنجبت بغلاً، وإب التي استمتعت ولا زالت تستمتع بحرارة الإغتصاب، والشوق يلُفّ أنفاسهم اليتيمة، ويغرس خنجره في قلوبهم اللاهثة.
شابٌ كعمار يُجندَل في جبهات القتال، وشابةٌ كسماح تُجندَل في جبهات الإنتظار، حتى انحصدت مشاعرها بحصاد الفَقد، فتقع على قِباب الحزن المُمِضّ الحارق، وآخر كأحمد النويرة يُزَجّ به في حنادس السجن، كما زُجّ بآخرين من قبله، فتنالهم السياط كما ينالهم السُباب، وتتخضب أجسادهم بالدماء الشاخبة، ويقهر أفئدتهم جهل الجلاد، أكثر من جهل السوط الواقع على أجسادهم، فهذا يموت في ظلمات السجن، وذاك يتفزّر لحمه لشدة العذاب، ثم يخرج في ألم؛ لا يتسع له وطن.
تُباع الأجساد البضة، والغيد الخمصانة، على ناصية الشارع، بغية اشباع الأكباد الجائعة، واقتطاف القليل من الرزق، حتى يقيم أود الأطفال الذين يتضورون جوعاً، بعد أن ألغى الطاغوت الحوثي أساسيات الحياة، كما أزهق أرواح الأطفال في متارسه، وتقف أخرى وعزّة نفسها تمنعها، علّها تجد من يرحمها دون أن يرحمها، فالرحمة بها ملحة من زاوية، ومذلة لها من زاوية أخرى، وتأتي ثالثة تشكو قلة المؤونة وضراوة الحاجة، ففي الشتات؛ كان الشتات أقسى من المكوث في الدار، وفي الدار كان الشتات أجمل منه، وفي المكانين مكانٌ واحدٌ اسمه: الموت بعناوينه المختلفة.
تلك الطائرات التي تخطئ دائما، لا تستطيع أن تصيب مالم تخطئ، وقد أصابت فكرية في ذكر ذلك، كما أصابت في ذكر ما حل بالوطن من كوليرا قتلت الفيلسوف المثالي هيجل، كما قتلت أطفال اليمن، ولم تنسى ذكر تعز التي تُباع في كل مرة؛ ولمرةً واحدة، وهي في غياهب الشقاء تعاني مرارة الخذلان، ومن ذِكر أسامة ذلك الشاب الوسيم القسيم، ونحيب أمه، إلى ذكر؛ أو بالأحرى التذكير بفريد “لا تقبرونيش” الذي تم دفنه في قبر صغير يوائمه… مع ذكر الكثير من الرجال القابعين في موت الحياة، ومن رحل منهم إلى حياة الآخرة.
إن اقتباس عبارة من منادح هذه الرواية أو الوثيقة، لن تكفي، كما أن اقتباس كل العبارات لا يتسع لهن مقام، ولنسعف أنفسنا بيسيرٍ من الأزاهير الرائقة في البستان، ريثما يمتلك البستان من يبتغي أزاهير أخرى، يختارها مذاقه، وتأنس بها خلفيته المعرفية.
*الرصاص الميت لا يقتل الكلمات الحية، إنه يرفعها عاليا، كي يقرأها كل الناس.
*الخوف من سقوط الأبرياء دافعٌ شريف، للهروب من موقفٍ مشرَف. هذا الموقف المشرف هو الذي أدمى تعز كثيراً، حتى كرهت الشرف المخضب بالدماء.
*إذا كان نظام الزعيم الفاسد قد حرص على شيطنة مدينةٍ كمأرب وقبائلها العظيمة، فإنه قد باع صعدة وأبناءها للشيطان.
*الرفاق يتسربون من الوطن كما تسرّب أسلافهم، حين عبث الفأر بالسد العظيم.
*يتركونه ليتحدثوا بإسمه، دون أن يشعروا بألمه.
*لقد أصبح قلبي هكذا فجأةً، عجوزاً طاعناً في الألم، يائساً من كل شيء.
*أنا من يجب أن يكتب عن الحرب أكثر من الحب، ويصف الجوع أكثر من الشبع، ويبكي حمرة الدم بدلاً من التغني بحمرة الورد، أنا من يدفن الرفاق أو يودعهم في الشتات، ليبقى محاصراً بالموت، كشاهد قبرٍ من ألم لمقبرة الوطن، أنا من عليه أن يعيش مع الموت، وينسى الحياة.
*لم تكن صنعاء مدينةً تحوي معسكرات، بل كانت معسكراً يحوي مدينة، ومخزناً هائلاً لأسلحة الخراب يوشك أن ينفجر بها.
*ما زال الرجل يحلم بالتغيير عبر الدعوة السرية، في حضرة قريش كلها.
*وانتظار الرعب أشد رعباً دائما.
*النزوح أن تترك خلفك أنت، بكل تفاصيل حياتك واهتماماتك واستقلاليتك.
*إنما أولئك الذين لا يملكون بيوتاً كي يفجروها، كانت أحلامهم هي البيوت التي نسفوها، وصار مستقبلهم بلا مأوى.
*أشك بانه الشعب الذي كتب عليه التيه وليس اليهود.
*لا يمكنني بعد الآن أن أثق بإنسانية بشري، أو أشك بإنسانية حيوان.
*لقد علمتني أقداري البائسة أن يحترق داخلي بصمت، فلا تظهر رائحة حفلات الشواء في قلبي لحواس أحد.
*ليس من المستهجن عند الناس أن ترى شابة تتسول، لكن من المستهجن أن تراها تبيع عقود الفل في الجولات وعلى الطريق.
الأستاذة فكرية شحرة، لمن لم يقرأ لها من قبل، من بعض الأصدقاء اليمنيين؛ وبالأخص غير اليمنيين، روائية باذخة الإبداع، تستمطر الخيال وتحلب جفاف الحرف، فتنسجم معها الأعين دون أن ترف رموشها، وتستحسنها الذائقة.
أصدرت ثلاث روايات، “عبير أنثى”، “قلب حاف”، “صاحب الابتسامة”، كما أصدرت من قبل كتاب قصصي بعنوان “غيبوبة”.