الطِباعَة الثلاثيّة الأبعاد: ثورة صناعيّة للقرن 21
يكاد لا يمر يوم من دون خبر عن ابتكار مبهر في صناعة جديدة ومتطوّرة هي «الطِباعَة الثلاثيّة الأبعاد» 3D printing، أو «الصناعة المُجسّمَة». ولعل أقرب تلك الابتكارات هو صُنع رِجل اصطناعيّة لدجاجة بالطِباعَة الثلاثيّة الأبعاد، وقبله جاءت أخبار عن إنجازات أولى لتلك التقنية تضمّنت صنع دواء وسيارة وجسر ويد اصطناعيّة للبشر تحتوي أليافاً تُحاكي الأنسجة الطبيعيّة للجسم وغيرها.
يمن مونيتور/ متابعات
يكاد لا يمر يوم من دون خبر عن ابتكار مبهر في صناعة جديدة ومتطوّرة هي «الطِباعَة الثلاثيّة الأبعاد» 3D printing، أو «الصناعة المُجسّمَة». ولعل أقرب تلك الابتكارات هو صُنع رِجل اصطناعيّة لدجاجة بالطِباعَة الثلاثيّة الأبعاد، وقبله جاءت أخبار عن إنجازات أولى لتلك التقنية تضمّنت صنع دواء وسيارة وجسر ويد اصطناعيّة للبشر تحتوي أليافاً تُحاكي الأنسجة الطبيعيّة للجسم وغيرها.
ثمة تطوّر كبير يشهده العالم مع تصاعد استخدام تكنولوجيا الطِباعَة الثلاثيّة الأبعاد. وفيما يستمر النقاش عن سلبيات الصناعة التقليديّة، كالتكلفة المرتفعة والتأثير سلبيّاً على البيئة، تقدّم تقنية الطِباعَة الثلاثيّة نموذجاً مختلفاً، فهي أقل كلفة، وتتوافق كثيراً مع البيئة، إضافة إلى قدرتها على الالتفاف على نقص المهارات البشرية والتقنيّة.
ولحد الآن، أحرزت «الطِباعَة الثلاثيّة» التي تُسمّى أيضاً «الصناعة التجميعيّة» Additive manufacturing، نجاحاً نسبياً في كسر سياسة الاحتكار للتكنولوجيا الرقميّة من قبل المؤسّسات العملاقة، لأن فكرتها الأساسيّة تعتمد ببساطة على محاكاة الشيء المطلوب صناعته، بواسطة صُنع مجسّم ثلاثي الأبعاد على الكومبيوتر، ليكون صوره طبق الأصل منه. وتنتج الأشياء بالطِباعَة المُجسّمة اعتماداً على قطرات بلاستيك مصهورة مع مواد أخرى، تتعامل معها أدوات تعتمد على الليزر، عبر عمليّات لا تولّد نفايات ولا ترتفع فيها تكلفة التصنيع.
وفي بداياتها، كانت الطِباعَة الثلاثيّة الأبعاد تحتاج إلى أجهزة كبيرة وأدوات معقدة، فكانت تستخدم على نطاق محدود في المصانع. وفي بداية القرن الحادي والعشرين، حَدَثَت طفرة هائلة في تلك الصناعة، خصوصاً في العام 2010. إذ أصبحت أدواتها أصغر وأرخص وأسهل في الاستخدام، كما بات من المستطاع استخدام مواد خام أكثر تنوّعاً، وإنتاج مجسّمات معقّدة ومركّبة.
وكذلك تستطيع الطابعات الثلاثيّة الأبعاد استخدام خامات مختلفة تشمل المعادن والبلاستيك والورق والمطاط والرمل والسيليكون والسيراميك، وحتى الـ»تيتانيوم» الفائق الصلابة. كما ظهرت طابعات متخصّصة في أغراض معيّنة كالطابعات التي تستخدم خلايا حيّة في صنع أنسجة بيولوجيّة.
ومن المستطاع القول بأن الطابعات الثلاثيّة الأبعاد قطعت شوطاً معتبراً على صعيد استخدامها في مجالات عدّة تشمل صناعة السيارات. إذ يتوقع أن تقوم شركة «دايفيرجانت مايكرو فاكتوريز» Divergent Microfactories (مقرّها ولاية كاليفورنيا) بصناعة نموذج تجريبي من السيارات الفارهة الصديقة للبيئة، بالاستعانة بتقنية الطابعة الثلاثيّة.
وفي المقابل، كشفت استنتاجات أوليّة لدراسات في جامعتي «توتنهام» و»أُكسفورد» حول «الصناعة التجميعيّة»، تشير إلى أن الطِباعَة الثلاثيّة الأبعاد تنطوي على تحدّيات كبيرة على صعيدي الإنتاج الموسّع وتعلّم التقنيّات، ما يعني أنها ما زالت في حاجة إلى استنباط حلول للعقبات التي تعترض تعضيد حضورها في الأسواق العالميّة.
وبنظرة استرجاعيّة، يمكن القول بأن الطِباعَة الثلاثيّة الأبعاد ليست وليدة الساعة، إذ جرى الاعتماد عليها منذ ابتكر تشاك هال أحد مؤسسي شركة «ثري دي سيستمز» 3D Systems نظام الطباعة المجسّمة في العام 1986.
وأدخل إيمانويل ساكس تطويراً عليها في العام 1993 عبر صنع مجسّمات دقيقة كأطقم الأسنان وأجهزة تعويضيّة للمرضى كالمفاصل والأطراف الاصطناعيّة، إضافة إلى استعمالها في صناعة المجوهرات والألعاب وغيرها.
وحاضراً، تتوافر ثلاثة نماذج من أجهزة الطباعة الثلاثيّة الأبعاد، وهي تسمّى «طابعات» على سبيل المجاز، متباينة في أشكالها وأحجامها. ويعرف النوع الأول باسم طابعات الـ»ثيرموبلاستيك» Thermoplastic 3D printers التي تعمل بأسلوب الطِباعَة بالانصهار. وتستعمل البلاستيك المصهور مادة أساسيّة في عملها، ما يعني أنها تتطلّب درجة حرارة عالية. وباستخدام البلاستيك الذائب، «تنسج» الآلة الطبقة الأولى للمنتج، وتكون رقيقة تماماً. وبعدها، تضيف الطابِعة طبقة فوقها، فيصبح لها ارتفاعاً معيّناً، حتى لو كان ضئيلاً جداً. ثم ترتصف الطبقات تدريجيّاً فوق بعضها بعضاً، إلى أن يظهر المنتج المراد صنعه.
ويسمّى النوع الثاني «الطابعات الضوئية»، إذ يعتمد أساساً على طِباعَة الأجسام والنماذج باستخدام مادة الـ»ريزين» الحساسة للضوء. وتختلف هذه التكنولوجيا عن سابقتها بأنّها تعتمد على إسقاط صورة ضوئيّة بلون واحد مسلطة على سطح الطِباعَة لمدة زمنية معينة، كي يستنسخ الشكل النهائي للمنتج المطلوب، بصورة تدريجيّة أيضاً.
ويسمّى النوع الثالث «طابعات الليزر الثلاثيّة الأبعاد» التي تتشابه مع الطابعة الضوئيّة، لكنها تستخدم أشعة الليزر مصدراً للضوء. إذ تسقط أشعة الليزر على مرآتين صغيرتين تتحركان على محورين أفقيّين، فينعكس خط أشعة الليزر على سطح مملوء بمادة الـ»ريزن» التي تتحوّل إلى بلّورات فور تعرضها لضوء الليزر. وعلى ذلك النحو، تتكوّن الطبقة الأولى، ثم تنضاف إليها بقية الطبقات تباعاً، إلى أن يظهر المنتج المطلوب في شكل كامل.
وأدى استحداث أنماط متعدّدة من الطابعة الثلاثيّة الأبعاد إلى تنوّع استخداماتها. وباتت تستخدم في صناعة السيارات وحتى الأسلحة، خصوصاً بعد أن تمكنت شركة «ديفينس ديستربيوتد» المثيرة للجدل في أيار (مايو) 2013 من صناعة أول مسدس بتكنولوجيا الطباعة الثلاثيّة الأبعاد في الولايات المتحدة، وسمّته «ليبِرايتور» Liberator، وجرت تجربته عمليّاً بنجاح تام.
ولعل الملمح الأهم في مسار تكنولوجيا الطباعة الثلاثيّة الأبعاد هو استخدامها في مجال الفضاء. إذ وجدت طريقها إلى عوالم الفضاء في العام 2014 مع إرسال شركة «سبايس إكس» SpaceX أول طابعة ثلاثيّة الأبعاد للعمل في «محطة الفضاء الدوليّة». وكانت تلك الآلة معدّلة كي تتناسب مع انعدام الجاذبيّة في الفضاء. واستخدمها رواد تلك المحطة، لصنع أول آلة يدويّة في الفضاء الكوني، واستعملوها لإصلاح بعض أعطال المحطة!
وفتحت تلك الخطوة الباب للمرة الأولى، أمام صنع الأدوات وقطع الغيار البسيطة في الفضاء بدلاً من نقلها إلى الفضاء، وهي عملية مكلفة تماماً. كما تمكنت وكالة الفضاء الأميركيّة («ناسا») من تصميم نماذج تذكاريّة مصغّرة عن أهم الكويكبات والمركبات الفضائية والأقمار الاصطناعية، إضافة إلى إجراء تجارب عن استعمال تقنية الطباعة الثلاثيّة الأبعاد في صنع أجزاء من محركات الصواريخ.
المصدر (صحيفة الحياة)