من يعرف شيئًا عن الجبة، فليمزقها خرقًا ويوزعها على الزعيم المخلوع ومعاونيه، وعلى قيادات المليشيا، وعلى فسدة الشرعية، ربما تنزل على الشعب بركة جبة السياغي!
قال الحلاج: ليس في الجبة غير الله..
سيترك الخرقة الخضراء ويندمج بالناس، ستلاحقه التهم، ويحكم عليه بأبشع طريقة قتل يمكن أن تحدث لإنسان، سيخلع الجبة، سيبدأ السياف بضرب أطرافه العليا، ثم أطرافه السفلى، وتركه ينزف على الخشبة إلى أن يموت، سيقطع السياف رأسه، ويعلق بأطراف المدينة.
الجبة للبرد، ولولم يكن الحلاج مستمسكًا بأفكاره، أو عاش إلى زمن المليشيا والمخلوع لقال:
ليس في الجبة غير الجيب الفارغ.
نحن جيل الموضة في القرية، عرفنا الجبب من العساكر، لقد كانوا يأخذون صرفهم العسكري من صنعاء ويرسلونها إلى الطاعنين بالسن ليدفئوا، وأحيانًا يشترونها من باب اليمن.
جبب على أزرارها الشعار الجمهوري، طير مذهب بجناحين، يدخل في شقوق الجبة ليشدها فيزداد الدفء.
بدأ البرد يتسلل إلى ليالينا، ستسمع صريره في الليل وقد تداخل مع خطوات الرجال. هم ليسوا رجالًا بمعنى تقدمهم في السن، ولكن بتماشيهم مع الظروف واستشعارهم مسؤولية تدبير المصروف لعوائلهم المتعففة.
برد، وفتيان بين العاشرة والعشرين، يمشون في الليل وعلى رؤوسهم أضوية الكشافات، هؤلاء كانوا طلبة مدارس يفترض أن يكون في مثل هذا الوقت نائمين كي يستيقظوا لطابور الصباح، لكنهم الآن في الطريق إلى الوادي كشقاة مع مقوت، يقطفون أغصان القات حتى انبلاج الصبح..
إنهم يتحدون البرد مجبرين، ستسمع أحدهم وهو يقول لصاحبه:
جلدي قشبب من السقعة.. وصدري أليم من الطل.
المعذرة.. خرجت عن الموضوع الذي أريد الكتابة عنه: الجبة المشؤومة التي تقتل صاحبها. وأشعر كما لو أنني أحرض على “المقوت”، لينتبه على الشقاة الصغار بأن يدبِّر لهم أردية الخز الثقيل لمجابهة قر الشتاء القارس.
هذا ليس لونًا جديدًا للكتابة، إذ يتداخل الخاص بالعام، القرية بالمدينة، القديم بالجديد، وإنما تشعبًا في الرأس نرجعه إلى طبيعة المرحلة لنقنع أنفسنا بالحاصل، وإلا ما دخل جبة الحلاج ببرد المبزغين.
لقد قرأت قصة غريبة عن جبة يمنية لم يُذكر لونها. جبة مشؤومة، هي جبة أحمد السياغي، القاضي السياغي سنة 1955، حرض العلماء على إرغام الإمام الطاغية أحمد للتنازل لأخيه، لم يكتف بذلك، بل ذهب إلى الإمام ليطلب مرسومًا خطيًا بالتنازل، كان واثقًا من حركة الأحرار التي قامت وقتئذ ومن نجاح ثورة الدستور، لكن الثورة فشلت، وقبض جنود الإمام على أحمد السياغي. وكما هو معروف عن الإمام سيرسله إلى ساحة الإعدام في ميدان الشهداء..
كان السياغي في الخمسين من العمر، يرتدي جبة ما يؤكد أن الطقس كان باردًا، لكن السياف المعروف بـ”الوشاح” أمره بخلعها، يعجبهم أن تموت والفرائص ترتعد من البرد، خلع السياغي جبته فقطع السياف رأس السياغي.
وأخذ الوشاح الجبة له.
بعد فترة اتُهِم سياف الإمام بقتل جندي من جنود الإمام، هي سياسة الإمام أحمد بتحويل القتل إلى تسلية ترهب معارضيه، حُكم على السياف الوشاح بالإعدام، وحين لم يجدوا من يعدمه، أخرجوا محبوسًا من الزرانيق كان في سجن الطاغية، كان الوشاح يرتدي جبة السياغي، أمره المحبوس الزرنوقي بخلعها، ثم ضرب عنقه.
أخذ الزرنوقي الجبة لنفسه.
وبعد أن قامت ثورة سبتمبر المجيدة عام 1962، وأطاحت بالإمامة وقامت الجمهورية، جاء الزرنوقي إلى المشير السلّال ليهنئه بالثورة، كان الزرنوقي يرتدي جبة السياغي، وبما أن السلال من قيادات ثورة سبتمبر والسياغي ضحى بنفسه عقب فشل ثورة الدستور، تجمعهما رابطة النضال ضد طاغوت واحد، كان على السلال أن يثأر للسياغي، لقد عرف الجبة التي يرتديها الزرنوقي.
خلع الزرنوقي الجبة، وأطلق عليه النار شخص اسمه الهدام.
الهدّام أخذ الجبة..
دخلت البلاد في فوضى، قُتل الهدام وهو يرتدي جبة السياغي. ثم لم يعرف أحد أين ذهبت الجبة فيما بعد.
هذه القصة نقلها أحد تلامذة مفتي الجمهورية العلامة محمد العمراني.
من يعرف شيئًا عن الجبة، فليمزقها خرقًا ويوزعها على الزعيم المخلوع ومعاونيه، وعلى قيادات المليشيا، وعلى فسدة الشرعية، ربما تنزل على الشعب بركة جبة السياغي!
أما نحن فإذا لم نجد الجاكيتات، فنفضل البقاء عرضة للبرد على أن نرتدي الجبب.. لا تهمنا الصحة يا عالم.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.