أعاد العراقيون الاعتبار إلى روح الربيع العربي، بعدما ذوت تحت أنقاض وجثث ضحايا براميل بشار الأسد وإيران المتفجرة، ووسط كراهية “داعش” وطائفيته البغيضة، ودولته الحمقاء التي تثير مخاوف كل عربي ومسلم أراد بديلا أفضل، وتاهت في ثنايا الحرب على “الإخوان المسلمين” الذين قرر أحدهم أنهم “الربيع العربي” فأعطاهم ما ليس لهم.
أعاد العراقيون الاعتبار إلى روح الربيع العربي، بعدما ذوت تحت أنقاض وجثث ضحايا براميل بشار الأسد وإيران المتفجرة، ووسط كراهية “داعش” وطائفيته البغيضة، ودولته الحمقاء التي تثير مخاوف كل عربي ومسلم أراد بديلا أفضل، وتاهت في ثنايا الحرب على “الإخوان المسلمين” الذين قرر أحدهم أنهم “الربيع العربي” فأعطاهم ما ليس لهم.
الربيع العربي لمن تاه عنه بعد أربع سنوات عجاف، ولمن عجز عن فهمه حتى الآن، على رغم كل عناوينه الواضحة، هو “الحق في العيش الكريم”، وهذا ما عبرت عنه جماهير العراق بوضوح، الجماهير نفسها التي اصطفت طائفيا يوما، والرجال والنساء أنفسهم الذين أعطوا أصواتهم لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي وائتلافه “دولة القانون”، وتحملوا فساده وسوء الخدمات في بلد ثري عقدا كاملا، اصطفوا خلفه شيعة خائفين كارهين إخوانهم السنّة، ولكنهم ملّوا!
لم يعد الاصطفاف الطائفي الغريزي يشبعهم، ولا الكوابيس التي صنعها المالكي وكل زعيم سياسي تقنعهم بعدم الانتفاض والثورة على الفساد والظلم وسوء الخدمات الذي يعيشونه. لهذه الأسباب ثار التونسيون والمصريون واليمنيون والسوريون والليبيون قبل خمس سنوات، قبل أن يكونوا شيعة أو سنّة، ولا ليبراليين أو “إخوانا”، لم يثيروا يومها جدل “الدولة المدنية أو الدولة الدينية”، وإنما المطالبة بالعيش الكريم، والوظيفة الجيدة، والحي النظيف، والكهرباء، والتعليم، والصحة، والحكومة التي يحاسبونها التي تمثلهم، والزعيم الذي يتواضع لهم لأنهم هم من أوصلوه إلى منصبه هذا، لا ميليشيات تحميه أو جيش وقضاء تزور له انتخابات.
للأسف لم يحصل شيء من هذا. نجحت الثورات المضادة، وشوهت المسار، لذلك غضبوا، لم يعد البغدادي والبصرواي يحتملان الصبر حتى يزول خطر “داعش”، ولم يعد الخوف من انتقال الحرب السورية إلى لبنان مقنعا للبناني لكي يسكت على غياب الدولة، فخرج غاضبا! لقد كفروا بكل السياسيين، الحكم والمعارضة، الليبرالي والمتدين، فهل ستكون الموجة القادمة من الربيع العربي موجة غضب تقتلع الجميع؟
قد تحتمل الشعوب الاستبداد ردحا من الزمن بسبب الخوف، وقد تنزلق قدمها في درب الكراهية والتخندق المذهبي أو السياسي أو الطبقي، مستعدة أن تصدق وعود “الزعيم” فترة، ولكن ثمة لحظة لا يعلمها إلا الله، تنفجر لسبب أو آخر لا قبل للمحلل السياسي أو رئيس جهاز الاستخبارات الأعظم بأن يعلمها فيحذر الزعيم قبل وقوعها، وربما حتى لو حذره سيكون هناك بجواره من يقول له إنها مجرد مبالغات متأثرة بدعاية أعداء مندسين ومؤامرة خارجية، وأن الشعب مؤمن به وبحكمته.
ولكن الشعوب لن تحتمل الفقر والجوع وانقطاع الكهرباء المستمر ورائحة الزبالة المتكدسة وتأخر الرواتب والبطالة والغلاء، بينما يرون سياسيين وضباط جيش ورجال حكم وأحزابا موالين ومعارضين يتقلبون في نعيم ووظائف ومطاعم وسهر ونضال تلفزيوني! سينكشف لهم في لحظة تاريخية، لا يوقتها أحد، عوار الاستبداد، وأنهم وقعوا ضحايا كذبة كبيرة اسمها الاصطفاف “الطائفي” أو “السياسي”، باسم المذهب، أو حتى الوطن.
الاستبداد سيئ حيثما حل، ولكن العربي منه هو الأسوأ، الحكم عنده هو السيطرة والاستئثار بالمنافع له ولطبقة من حوله، فيجيد ويتقن فنونهما، وكأن الكتاب الوحيد الذي قرأه المستبد العربي هو “الأمير” لميكافيللي، لا يهتم بالإدارة ولا يحسنها. في تشيلي كان هناك مستبد طاغية عسكري اسمه أوغستو بينوشيه، قُتل واختفى في عهده الآلاف، كان يزعم أنه ينقذ الوطن من الشيوعيين الفوضويين، على رغم ظلمه وبطشه فإنه أسس لمعجزة تشيلي الاقتصادية، كان ذكيا بما فيه الكفاية لأن يسند أمر الاقتصاد إلى خبير، استدعى أستاذ الاقتصاد الشهير في جامعة شيكاغو ميلتون فريدمان، سأله كيف ينقذ اقتصاد بلده، طبق أفكاره ونصائحه وخلق مدرسة في خصخصة الاقتصاد وتحويله من شمولي عقيم إلى سوقي منتج، فأنقذ تشيلي بإصلاحاته لا بانقلابه الدموي الذي ظل يلاحقه ويحاسب عليه حتى مات.
المستبد العربي لا يرحم ولا يريد رحمة الله أن تهل على عباده. تضيع الموصل، يضيع بعض مع الوطن، ينقسم المجتمع ويحترب، يكره الأخ أخاه، يشي المواطن بالمواطن الآخر، لا يهم، المهم أن يبقى المستبد وطبقة متنعمة من حوله.
صور قبيحة احتلت شاشات العرب خلال السنوات الماضية، قتلٌ في الميادين، وحرقٌ للقرى، ومواطن يحرض على آخر، حشد شعبي هنا، وإعلام صارخ هناك، محركاتهم الكراهية، صناعة الكوابيس والخوف، إثارة الطائفية والتحزب، إغراق المجتمع والمثقفين في جدل عقيم عن الهوية، دولة شيعية أم سنّية، دينية أم مدنية، لم يكن كل ذلك عملا عارضا، وإنما مخطط لتغيير الموضوع، المستبد لا يريد من يحدثه عن العيش الكريم، ولا الوظيفة، ولا الشارع النظيف، أو التعليم الجيد، وبالطبع لا يطيق حديثا عن العزة والكرامة، لأنه عاجز عن أن يوفر أيا منها، إنه يعدهم بشيء واحد، الاستقرار والأمن، إن غبت كانت الفوضى!
الإرهاب يخدمه فيشجعه ضمنا، إعلامه يذكّر المواطن بالإرهاب ليل نهار، يخيفه منه، يصنع منه كابوسا يلاحقه، الإرهاب في المنعطف الآخر من الشارع، لو غفت عين الزعيم وشرطته و “حشده الشعبي” وميليشياته وفرق موته فسينقض عليه ويمزقه وأسرته، لذلك عليه أن يقبل بعنف المستبد، إنه ضروري لحماية “الدولة” التي يريد الإرهاب تفكيكها، الطائفة والجماعة مستهدفة إن لم ننقل الخوف إلى معسكر الإرهاب والمتعاطفين معه، كل من يسكت أو يبرر أو يقدم رأيا آخر هو إرهابي لا بأس أن يموت.
مثقف المستبد وإعلامه يدفعان المواطن إلى القبول بالدم المهرق في الجانب الآخر، كل من ليس معي فهو في الجانب الآخر، عندما يقبل المواطن بالدم يشترك في تحمل وزره مع المستبد، فيشعر براحة واطمئنان فذلك يبعده عن لحظة المحاسبة.
تكتيك قذر، يصلح سنة.. اثنتين.. عقدا كاملا، ولكنه لا محالة سينهار، هذا ما يحصل في العراق اليوم، يحاول رئيس الوزراء حيدر العبادي إنقاذ ما يمكن إنقاذه، يساعده في ذلك المرجع السيستاني وطبقة من السياسيين العراقيين، لعلهم اقتنعوا بأن غضبة “ناخبيهم” الشيعة العراقيين يمكن أن تطوف بهم جميعا وليس المالكي وحده، فهم جميعا كانوا شركاءه يوما، هتافاتهم واضحة صريحة، كأنهم فكوا شفرة عمل سحري أعماهم عن مطالب العيش الكريم فخرجوا يهتفون:
“حجنجلي …. بجنجلي
إقليم إلك …. إقليم إلي
برميل إلك …. برميل إلي
قسموا الشعب كما يلي
سنّة عمر …. شيعة علي
والما يلعب وياهم مبتلي”.
عاد الوعي للعراقيين، فهل يعود لغيرهم.
(عن صحيفة الحياة اللندنية 29 آب/ أغسطس 2015)