في غمرة نقدنا للحمدي عبر هذه الجزئية، فيبقى علينا ألا ننسى بانه عسكري، رغم نزعته المدنية الجلية التي اتسمت بها الحياة الاجتماعية في فترته، إلا أن سلوك العسكر عموماً لا يتوافق بسرعة مع المطالب الديمقراطية والمدنية السياسية الصاخبة التي كانت تمور وقتها، وإنما بالتدريج كما كان واضحاً.
ستظل أجمل فترة شهدتها اليمن في التاريخ الحديث.. حلما ومشروعا ولو كره الكارهون هي فترة الرئيس إبراهيم محمد الحمدي.
ونعلم بأنه لا يوجد مثال مكتمل كما نعلم أن حسنات الحمدي كانت كاسحة لسيئاته النادرة جداً.
بل إن فترته كانت وما زالت الحالة الأفضل لكل رؤساء اليمن في كل المجالات التي بلغت فيها اليمن تطوراً استثنائياً ومرموقاً في غضون فترة قياسية وسريعة.. غير أن الحمدي ليس فوق النقد.. ولذا فإن أسوأ ما فعله تنصيب السفاح محمد خميس رئيساً لجهاز الأمن الوطني، فكيف تغافل الحمدي ولم يدرك نوايا “خميس” التي تكشفت في أنها كانت متسقة مع نوايا فصيل واسع من نظام الحمدي ساهموا في اغتياله لاحقاً؟
ولقد ذهب ضحية لذلك الجهاز -أثناء فترة الحمدي- عدد من أبناء الحركة الوطنية ما يزالون حتى اليوم كمختفين قسريا، وبالتالي فليس من المحرمات مناقشة موبقات الفترة بالرغم من اعتزازنا بفضائلها مع العلم أنه الجهاز سيئ الصيت نفسه الذي ساهم في اغتياله وهو الرئيس الأسطوري الذي نال شعبية جارفة اتسعت جيلاً بعد آخر.
وبتقديرنا أن كل المعطيات تشير إلى سوء فهم حدث بين الحمدي وعديد تيارات وطنية حول الاولويات.
فللانصاف وكما هو معلوم، لم ينطلق الحمدي في مشروعه التصحيحي من عنف الانقلابات الدموية بل إن حركته القادمة من الجيش كانقلاب أبيض، نجحت وتفوقت في إنفاذ استراتيجياته لمكافحة الفساد وتحسين الإدارة واحراز تفوق نوعي في المستويات الاقتصادية والاجتماعية والتنويرية كما ولدت رأي عام منسجم مع احترامه للحمدي بحيث استمر ذات الرأي العام مفجوعاً ومندداً بطريقة اغتياله الآثمة، وهو الرئيس المحبوب الذي اتسم بالتواضع والقرب من الناس، إذ دحر مراكز القوى التقليدية وحاول أن ينجز فارقاً في اداءات الدولة الخدمية.
وأما في غمرة نقدنا للحمدي عبر هذه الجزئية، فيبقى علينا ألا ننسى بانه عسكري، رغم نزعته المدنية الجلية التي اتسمت بها الحياة الاجتماعية في فترته، إلا أن سلوك العسكر عموماً لا يتوافق بسرعة مع المطالب الديمقراطية والمدنية السياسية الصاخبة التي كانت تمور وقتها، وإنما بالتدريج كما كان واضحاً.
كما يتطلب الأمر كذلك عدم اغفالنا حساسيات المرحلة وصراعاتها فضلاً عن أنه جاء من مرحلة ذات شمولية متطرفة وصدامات طائفية كانت تطوع الجيش لمصالحها، كما ترى في الحزبية خيانة، واستمرت تحرض على النظام الاشتراكي في الجنوب، ولنأخذ في الإعتبار هنا مقدار الدعايات التي كانت تطلق من قبل كثير من مراكز النفوذ على الحمدي باعتباره شيوعي أو علماني وملحد الخ، وذلك في وسط متخلف يزخر بقوى تقليدية متوغلة تبدع جيدا في المتاجرة بالدين، ما بالكم وهي التي اغتاضت من الحمدي لأكثر من سبب أبرزها إعادة الإعتبار للجيش ومساعيه الاصلاحية التي حدت كثيراً وجوهرياً من نفوذها وبالذات من خلال عدم تكريسه لمبدأ الطائفية وإنما الكفاءة كما دأبه على التخطيط والبرمجة والانجاز الحاسم في الاداء الحكومي إلى أن اصيبت تلك القوى بالهستيريا جراء تقارب الحمدي مع النظام الاشتراكي في الجنوب وحدوث خطوات وحدوية حثيثة ومفاجئة.
ومع العلم بأن الحمدي كان صاحب لغة مشتركة بين الأطراف الوطنية بالذات اليسار في الشمال المحسوبين على نظام الجنوب، والقوميين من الناصريين إلا أن المسألة الديمقراطية كانت من أبرز أوجه الإختلاف مع الديمقراطيين منهم، كما تفيد الكثير من المؤشرات خصوصاً في بدايات حكم الحمدي فكان أن شملتهم الاعتقالات.
على أن الثابت في خضم كل هذا هو المفارقة المهمة التي تكشف الكثير من الالتباسات في هذا السياق والمتمثلة في أن التيارات الوطنية السياسية السرية والمحظورة التي تم اعتقال نشطائها فترة الحمدي من قبل جهاز خميس، هي التيارات التي أصبحت أكثر تضرراً وتحسراً لاغتيال الحمدي كونه أفضى إلى انهيار ملامح تشكل مشروع وطني يمني عّول عليه غالبية اليمنيين حينها.
ومذاك، انفرط الجهاز-وقد صار عفاش على رأس السلطة بشراكة بعض المحسوبين على التيار الإسلامي الذين صاروا ذات سلطة في الجهاز- في بطشه واستهدافه المجنون لكل المحسوبين على فترة الحمدي ومعهم كل المعارضين وأصحاب الرأي من التيارات الاخرى خصوصا مع أحداث جبهات المناطق الوسطى المدعومة من قبل عدن والجبهة المضادة المدعومة من صنعاء.
غير أن الجهاز تغول بشكل لامعقول حتى بعد انتهاء الأحداث الجبهوية، بل إنه استمر فوق كل القوانين حتى في الفترة الديمقراطية إلى أن بلغ ضحاياه حسب تقديرات حقوقية عشرات الآلاف من المنكل بهم والمغتالين والذين تم اخفائهم ولا يعرف مصيرهم إلى اليوم.
باختصار شديد، انتهى الحمدي بشكل تراجيدي وما زال اليمنيون الذين عايشوه يترحمون عليه وعلى نزاهته التي لا تشابه بحيث يتذكرون فترته بخير واعتزاز كبير، معددين المئات من الامثلة التي تؤكد نظافة يده وعفته التي لم تورطه في نهب المال العام إضافة إلى الإنجازات المتفردة التي انعشت الدولة والمجتمع ومعتبرين بإجماع لم تناله أي شخصية رئاسية يمنية بانه كان؛ وسيظل الاقرب إلى قلوبهم وغاياتهم وأحلامهم كونه بدأ الخطوات الفعلية الأولى لتحقيق حلم انتشال اليمن من التخلف واحراز التقدم والبدء بالسياسية الخارجية المشرفة على الرغم من بعض الأخطاء التي شابت فترة دولته الاسطورية التي استمرت 3 سنوات، حملت ملامح دولة أمنية بالطبع كأغلب دول المرحلة.
بينما الواضح أن مرحلة عفاش الذي أفسد الشخصية اليمنية وجعل الفساد بمثابة تربية وطنية طوال عقود، هي ما جعلت الناس يزدادون هياماً في عشق فترة الحمدي، بل ويعتبرونه أحد الأولياء الصالحين الذين لا يتكررون.
كما ستظل تلاحقنا اللعنات كشعب فرط بدم إبراهيم الحمدي.
ورغم كل العثرات أو الأخطاء، كان ابراهيم الحمدي مشروعاً زاخراً وخلاباً لأنبل محاولة يمنية للنهوض وللتقدم -في اليمن الشمالي سابقا- لذلك تم اغتياله بخسة مروعة، ولأننا تركنا القتلة يسرحون ويمرحون، كان من الطبيعي أن تصيبنا لعنة دم إبراهيم الحمدي لنتعاقب من بعدها جيلاً بعد جيل.
وما نساه صالح وهو يروي حكاية قتل السعودية للرئيس إبراهيم الحمدي قبل عام ونصف لقناة الميادين باشراف ملحقها العسكري صالح الهديان، هو أنها عينت صالح نفسه ملحقاً عسكرياً بديلاً بدرجة رئيس!
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.