تقاوم مدينة عدن ثقافة الكراهية والعصبية، ثقافة الصراعات السلبية، وتجريف المجتمع والوطن من أدواته الثقافية والفكرية بل والسياسية، وتقاوم من يريد أن يورث المستبد كمستبد جديد بصيغة وصورة منمقه.
امة واحدة متنوعة، ولكل مدينة شيء من الخصوصية والهوية التي تشير إلى فرادتها وتميزها عن مثيلاتها من المدن، عدن بحكم موقعها كنقطة عبور وقبلة للزائرين والعابرين بمختلف ثقافاتهم وأعراقهم، احتكاك وتمازج يصنع حضارة وتنوع وثقافة مدنية بقبول الآخر والتعامل مع المختلف، بتجاوز العصبية والقبيلة والعشيرة لما هو أكبر لترتبط بالأمة الإنسانية جمعا.
تميزت عدن في منطقتها بعلامات فارقة بميولها الحضاري ورفضها للتعصب اقترابها من الخير وابتعادها عن الشر، وهي السباقة في النهضة والتكيف مع الحضارة ومواكبة تطورات العصر، تصطدم كثيرا بعقبات ومشاكل كمحاولة تسيجها قبليا بنمط أشكال الحياة المتخلفة، كما أن هناك محاولات من حين لآخر لجعلها ساحة لصراعات الإرث القبلي والطائفي والمناطقي من تسيد وهيمنة، في صراع نفوذ مصالح المشايخ والسادة ورثة السلاطين والأمراء والإمامة، لفرض تميزهم مستبدين مهيمنين، فرض تخلفهم وجهلهم، رافضين المساواة والعدالة مع بقية خلق الله، صراع ما زال يجرنا للخلف لليوم.
التاريخ الحديث وشواهده تقول إن عدن كانت وما زالت منبع خير وشعاع نور في منطقتها إقليميا ووطنيا، لها أفضالها، منها أشع نور العلم والمعرفة والثقافة والفكر الجديد، منها بدأت التجمعات والنوادي الثقافية والإنسانية والاجتماعية والسياسية، ومنها بدأ الناشطون تشكل تكويناتهم النقابية والسياسية، فيها ولدت الحركة العمالية والوطنية، ثم انتشرت في المنطقة، احتضنت كل المناضلين والفارين من الظلم والتعسف والاضطهاد، آوت ثوار سبتمبر وحركات التحرر الوطني والإنساني.
هل يتذكر جيلنا، وتعلم الأجيال المتعاقبة، الدور الريادي لعدن في التنوير والتعليم والتحضر لليمن عامه والجنوب اليمني خاصة، حيث كانت عدن نورا أشع بضيائه أرض الجنوب فأنار عقول أجيالا وأجيال، نورا أضاء العقول والمجتمعات وخاصة بعد الاستقلال، لجأ لها كل شغوف للعلم وعاشق لكل جديد وفتحت ذراعيها لهم ليرتشفوا علما ومعرفة من مناهلها ليرتووا وتنور عقولهم، وتجند أبناؤها كمعلمين جابوا الصحاري وقمم الجبال بين القرى والأودية والشعاب وفي خيام البدو الرحل والجزر والسواحل والمناطق النائية، نشروا التعليم، وقضوا على الجهل والتخلف والأمية في كل ربوع أرض الجنوب اليمني.
من الستينيات، وفي بعض المصادر تقول من الخمسينات، وبقرار جمهوري من السبعينيات فرض واجب الخدمة الوطنية والعسكرية معا في الريف كمعلمين أو كجنود لعبوا دورا مهما في نشر التعليم والتحضر والمدنية واحترام النظام والقانون، ومحو الجهل والتخلف والأمية والتسيد والهيمنة التي فرضتها القبيلة والعشيرة وفقر ثقافي وفكري وروحي.
خاضوا نضال جبهة مهمة، رجالا صدقوا ما عاهدوا عليه الله والوطن، رجال العلم والمعرفة من أبناء عدن بمختلف جذورهم وانتمائهم ذكورا وإناث، تجندوا بقناعة كاملة وروح وطنية، براتب خدمة وطنية، شاركهم بذلك إخوانهم من مثقفي ومتعلمي الحوطة وزنجبار وجعار وحضرموت، خدمة وطنية للتدريس في الريف، في أوضاع معيشية صعبة، وحياة ريفية فقيرة من مقومات الحياة، لكن المهمة كانت أعظم تتطلب التضحية وتحمل الصعاب، فقدموا التضحيات والفداء، كغيرهم من مناضلي الجيش والأمن، في حرب المرتزقة بتمويل قوى تقليدية ونفوذها المتخلف أراد للمنطقة أن تعيش في ظلمه وظلام، فاستهدفت هذه الشريحة، وما أكثر الحوادث وخاصة في المناطق الحدودية، قتل من زملائي في سبعينيات القرن المنصرم خمسة في منطقة مودية ولودر بسلاح غدر مرتزقة ذلك الزمن لتخويفنا من الاستمرار في أداء دورنا في التعليم، مما زادنا عزيمة وإصراراً في مواصلة العمل لتنوير عقول المجتمعات المتخلفة وقشع ألظلمه ونشر نور العلم في الجنوب، هكذا كانت وما زالت عدن، ونتائج هذا النضال ملموسة وشواهده كثيرة، تاريخ لا يمكن طمسه أو نكرانه، وشهادات دولية في محو أمية هذه المجتمعات.
ماذا حدث بعد ذلك؟! لا علاقة لعدن به، سيلا جارف للتخلف والفساد والنفاق، جرف كل بذور الخير التي زرعت على هذه الأرض ، لتستبدل بثقافة الفاسدين والمتسيدين والناهبين والمزورين، في عبث طال الجميع بما فيهم عدن، قاومت وما زالت تقاوم بكل قوة هذا العبث.
تقاوم ثقافة الكراهية والعصبية، ثقافة الصراعات السلبية، وتجريف المجتمع والوطن من أدواته الثقافية والفكرية بل والسياسية، تقاوم من يريد أن يورث المستبد كمستبد جديد بصيغة وصورة منمقه، تقاوم احتكار عدن مؤسساتها الحيوية سيادتها ومرافقها الإرادية، تقاوم الواهم على أن عدن عليها أن تتبع أجنداته وتكون خاضعة لقناعاته، هم حاكموها بنفس العقلية وإن اختلفت عماماتهم وبدلاتهم.
كم مستبد اعتقد انه شدد قبضته على عدن وصارت ملكه، وفي لحظة نفضته من على كاهلها لمزبلة التاريخ مدان قبيح الشكل والجوهر، وهكذا هو مصير من يتوهم انه قادر على تشديد قبضته على عدن وتهديد كل من يدافع عن كرامتها ومستقبلها، ولنا في التاريخ عبر يا أولي الألباب، إنها عدن، سنسمع فيها أهازيج الاحتفالات الوطنية لسبتمبر وأكتوبر، وستعود عدن الثورة والجمهورية..
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.