لو كنت أدري بموعد موتي لأتّفقت مع السيد عبدالكريم الياجوري على تحنيطي، ولأوصيت بعرضي بعدها في تابوت زجاجي، على غرار لينين في الساحة الحمراء.. لكن أحداً لن يضمن لي الوفاء بتحقيق الأمنية وتنفيذ الوصية.
توافد الجيران، فالأقارب، فالأصدقاء والزملاء، على الدار. كان الحزن يُخيّم على وجوههم، لمحتُ صدقاً حقاً في بعضه وزيفاً محضاً في معظمه. دعوتُ الله ألاَّ يجرؤ أحدهم على الادعاء بأنه أقرضني مالاً قبل وفاتي بأيام أو أسابيع، لأن الجميع سيُصدّقه حينها، فقد كنتُ في أيامي الأخيرة صريع الحُرفة على نحوٍ يثير الشفقة. أستجاب الله لدعوتي.
سرعان ما بدأتْ مراسيم ترحيلي من الدار إلى النار.. لا أدري ما السرّ في حماستهم المفرطة!، فقد بدا لي الجميع لا يطيق صبراً على بقائه في جواري، ولو لهنيهةٍ أخرى.. ربما لأن “اكرام الميت دفنه”، كما ظلوا يُردّدون بين لحظةٍ وأخرى، وهي الجملة التي كان الجميع متفقاً عليها كحال الجملة الأخرى: الله يرحمه.. غير أن أحداً لم يُضِفْ اليها: ويسكنه فسيح جناته.. وكأنَّهم يدركون أنني ذاهب في الطريق الأخرى.
لو كنت أدري بموعد موتي لأتّفقت مع السيد عبدالكريم الياجوري على تحنيطي، ولأوصيت بعرضي بعدها في تابوت زجاجي، على غرار لينين في الساحة الحمراء.. لكن أحداً لن يضمن لي الوفاء بتحقيق الأمنية وتنفيذ الوصية.
سارت الجنازة بفتور شديد، وبحضور عدد قليل جداً من معارفي وعدد أقل من السابلة الذين أعتادوا السير في كل جنازة عابرة، ولو كانت جنازة كلب.
عند وصولي -أو وصولهم- إلى المقبرة، كان القبر جاهزاً لاحتضان جثماني، لكنه كان ضيقاً جداً عليَّ، كما هو حال كل شيء في حياتي، وبالرغم من ذلك، أصرَّ الجميع على حشري قسراً في بطن القبر الذي حُفر في مكانٍ قصي من المقبرة المكتظة بالجثامين التي ظل بعضها يُردّد: رحم الله النبَّاش الأول!
انتهى الأمر سريعاً.. وكان الجميع متعجّلاً جداً لمغادرة المقبرة.
أهالوا عليَّ كمية كبيرة من التراب والحجارة والحصى، وكمية قليلة من الماء والدعاء.. ثم راح كهل توحي ملامحه بالبلاهة والطيبة معاً يُسوّي جنبات القبر، تمهيداً لسدّه تماماً بطبقة من الأسمنت الذي قضيت معظم عمري عاجزاً عن توفيره لبناء بيت، من دون جدوى. قلت لنفسي: من لم يسكن بالأسمنت، يُدفن به.
ها أنا وحدي والظلام. أتمدّد دون حراك. لا وقت للوقت هنا ولا لغة للمكان. بيني وأقرب جار، جدار من ورائه جدار. تلاشت المسافات وضاقت المساحات واستوى العدم بين رأسي والقدم. لا فائدة من التفكير في الأمر. إذن، فلأسترح، وليقلق العالم فوقي.. فأخيراً، لقيت السبيل الوحيد إلى الخروج من دوامة القلق الذي أوصلني إلى آخر النفق.
* مُقتطَف من قصة طويلة مخطوطة ، بالعنوان ذاته – صنعاء – 2008.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.