كتابات خاصة

أوهام الناس في السحر (2)

عبدالله القيسي

ذكرت في الحلقة الأولى دليلا من أدلة القائلين بأن السحر تغيير لطبائع الأشياء واستخدام لقوى غيبية (الجن) في الإضرار بالآخرين، وأذكر هنا دليلهم الثاني على ذلك، فقد استدلوا برواية في البخاري ومسلم تقول بأن يهوديا قد سحر النبي عليه الصلاة والسلام، فما هي تلك الرواية وما هي عللها المخالفة للقرآن والعقل؟

ذكرت في الحلقة الأولى دليلا من أدلة القائلين بأن السحر تغيير لطبائع الأشياء واستخدام لقوى غيبية (الجن) في الإضرار بالآخرين، وأذكر هنا دليلهم الثاني على ذلك، فقد استدلوا برواية في البخاري ومسلم تقول بأن يهوديا قد سحر النبي عليه الصلاة والسلام، فما هي تلك الرواية وما هي عللها المخالفة للقرآن والعقل؟

جاء في البخاري بحديث رقم 5321- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ عِنْدِي لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا ثُمَّ قَالَ يَا عَائِشَةُ أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ فَقَالَ مَطْبُوبٌ قَالَ مَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ قَالَ فِي أَيِّ شَيْءٍ قَالَ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ قَالَ وَأَيْنَ هُوَ قَالَ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَجَاءَ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا اسْتَخْرَجْتَهُ قَالَ قَدْ عَافَانِي اللَّهُ فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ ” اهـ.
هذه الرواية تحيط بها العلل والإشكالات من زوايا كثيرة، وسأحاول أن أضع استعراضا سريعا لما استشكل في هذه الرواية عند من ردها:
أولا: لن أتوقف عند مشكلات السند التي ذكرها البعض بأن هشام بن عمار هو الراوي الوحيد لهذه الرواية، وهو مطعون فيه بأنه مدلس، وقد اشتبه عليه الأمر في رواية هذا الحديث، وكذلك في اضطراب ألفاظ الرواية على اسم البئر بين “ذروان” و”أروان”، فربما وجد المدافعون إجابة لذلك، ولكني أستشكل بالجملة الشروط الخمسة التي وضعوها لتصحيح الحديث من تضعيفه ففيها من العلل ما يمكّن من اختراقها وبالتالي فلا نركن كثيرا على روايات الآحاد تلك، وقريبا إن شاء الله سيصدر بحث بذلك.
ثانيا: هذه الرواية تعارض الآية التي تقول بعصمة النبي، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (المائدة67).
والعصمة هنا هي عصمة النبي في تبليغ الرسالة، والعصمة في تبليغ الرسالة هي حفظ عقله من أي اختلال قد يشوش على الرسالة، ومن أي تقوّل على الله بما لم يقله، وحفظ حياته من أن ينهيها أحد قبل اكتمال الرسالة، وهذه الرواية تخالف الشق الأول في العصمة.
والمفارقة العجيبة أنهم في حين يجعلون عصمة النبي في كل أفعاله وأقواله ينسبون إليه هذه الرواية التي تقول بأن يهوديا سحره، وأن ذلك السحر أثر على عقله فكان يصنع الشيء وهو لا يدري أنه صنعه، ولست أدري كيف قبلوا بهذه الكذبة القادحة في عصمة الله له من الناس في شيء يخص الرسالة بينما عصموه فيما هو بسيط ولا يخص حفظ الرسالة؟! فقولهم بتلك الرواية سينبني عليه كلام خطير فهو قد يسمع الكلام فيعتقده وحيا وهو ليس كذلك. وقد يظن أن جبريل بلغه وهو لم يفعل، تقول الرواية في البخاري: (حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ صَنَعَ الشَّيْءَ وَمَا صَنَعَهُ )( البخاري ج5/ص2176) ؟!! وفي رواية عنده أيضا: ( حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلاَ يَأْتِيهِنَّ )( البخاري ج5/ص2175)، وفي رواية ثالثة عنده أيضا: ( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلاَ يَأْتِي )( البخاري ج5/ص2252)، وحتى لو حصروا اختلال العقل في أن يأتي النساء أو لا يأتيهن فإنه يعتبر أمرا خطيرا في التشكيك بقدرات النبي العقلية وليس كما يظن المدافعون عن الرواية.
ثالثا: هذه الرواية تخالف القرآن من زاوية أخرى، فبينما يدحض القرآن ما قاله المشركون في حق النبي عليه السلام بأنه مسحور (نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ) الإسراء47. نجد الرواية تؤكد تلك الكذبة والتهمة ضده؟!
رابعا: تقول الآية بأن الشيطان (ليس له سلطان على الذين آمنوا) (النحل 99) فهل كان له سلطان على النبي ؟ أوليس النبي أعظم المؤمنين فكيف تلبسه الجان؟
خامسا: تقول بعض الروايات إن سبب نزول المعوذتين كان هذه الواقعة مع أن كتب أسباب النزول تقول إن هاتين السورتين مكيتان بينما حادثة السحر حدثت في المدينة, فكيف يكون ذلك؟
سادسا: لماذا لم يتحرك النبي والصحابة باتخاذ إجراء معين ضد من قام بذلك ما داموا قد عرفوا الرجل؟ ألم تأت روايات بأنه اتخذ إجراءات ضد من حرض أو اعتدى أو شارك بالقتل فلم لم تأت هنا؟ أولم تحدثنا الروايات عن عمر أنه كان يغضب من كل من يمس النبي بسوء وربما بالغ فطالب بضرب عنقه؟ فلماذا لم تخبرنا الروايات ماذا فعل عمل في أمر كهذا أم أن الأمر لا يستحق؟
 
سابعا: ألا يكرر الخطاب الوعظي اليوم بأن من قرأ الأذكار لم يصبه شيء من السحر! فهل كان النبي لا يقرأ تلك الأذكار أو بالأصح ألم يكن في حالة ذِكر؟ وكيف تقول الروايات بأن من يقول كذا وكذا من الذِكر لم يصبه شيء في يومه بينما يصاب صاحب التوجيه والإرشاد نفسه؟!
أخيرا يقول الشيخ محمد الغزالي وهو من أكثر من يهاجم فكرة دخول الجان في الإنس: “فما أكثر الأحاديث التي صحت أسانيدها، ومع ذلك خالفت ما هو أوثق منها..!! أو حف بها من الشبه ما يقدح في قيمتها، ومع ذلك تلقاها الناس بالقبول؟ إن القرآن نقل إلينا متواترا كلمة كلمة، ومع ذلك فقد فتحنا صدورنا لروايات آحاد بقراءات شاذة. لماذا؟ مع أنه يكفى في إسقاط الحديث عن درجة الصحة مخالفة ما هو أوثق منه. وكما يجب إعدام هذه الأحاديث، يجب إعدام أي حديث يفيد توجيها غير ما يفيده القرآن الكريم.. وهناك علل تقدح في متن الحديث ولو صح سنده. لقد أنكر الشيخ محمد عبده أحاديث سحر الرسول ـ وإن كانت من رواية البخاري ـ لأنها غضاضة غير لائقة بمكانة النبوة… ولو ساغ أن هذا التخييل يؤثر في النفوس الضعيفة فكيف يقوى يهودي على التأثير في أقوى نفس بشرية وهى نفس الرسول صلى الله عليه وسلم! وما معنى القول أن هذا التأثير في أعضائه لا في روحه مع أن السحر يعتمد على قوى خفية في زعم مثبتيه لا على وسائل مادية. وإذا صح هذا فلم لا يصح قول المشركين: (إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا)”. كتاب الإسلام والطاقات المعطلة ص (60).
أظن أن هذا كافٍ لرد تلك الرواية ومن ثم إسقاط الاستدلال بها فيما ذهبوا له من تعريف للسحر.. وفي مقالات قادمة إن شاء الله أستكمل مناقشة بقية أدلتهم في ذلك.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى