فكر وثقافة

غيمة وخيط

أمجد ناصر

ما الذي يميز الحلم عن الواقع؟ علمياً، لا أعرف. لكن بوسعي القول: إننا عندما نحلم فإنما بواقع. لا مادة للحلم من غير واقع ما، أو من صورة من صور الواقع حتى لو كان الحلم فنتازياً. ما الذي يميز الحلم عن الواقع؟ علمياً، لا أعرف. لكن بوسعي القول: إننا عندما نحلم فإنما بواقع. لا مادة للحلم من غير واقع ما، أو من صورة من صور الواقع حتى لو كان الحلم فنتازياً. فنحن لا نملك صوراً من خارج الواقع. عندما نستعين باللغة لمعرفة كلمة “واقع” فهي لا تفيدنا بأكثر من أنه الشيء الذي حصل ولا سبيل لرده إلى احتمال آخر.. إلا في الحلم. هذا ما يميز، في نظري، الحلم عن الواقع، أو هذا أحد وجوه الاختلاف، لأن هناك وجوهاً أخرى تتعلق بالزمن، سيولته، تدفقه من نقطة إلى أخرى وفق منطق متراصف. هذا زمن الواقع، لكن زمن الحلم بوسعه أن يرتد إلى الوراء، أو يقفز إلى الأمام. إذن الأحلام، بهذا المعنى، هي الواقع متحولاً، الواقع وقد تخفَّف من زيّه الرسمي الذي لولاه ما فرقناه عن الواقع الفعلي. لكن الأحلام أجمل، ليس لأنها تكتسب لوناً مميزاً، كما تفعل السينما عندما تريد تفريقه عن صورة الواقع، بل لأنها تتحرر من قيوده و”إكراهاته”، فتصبح حرة، طليقة، قادرة على استضافة الشيء وضده من دون غرابة، أو افتعال.

بمثل هذه الأفكار تلقيت عمل عبده وازن “غيمة مربوطة بخيط”. بمثل طلاقة الحلم ينبغي تلقي هذا العمل المكتوب في قلب شعرية قصيدة النثر. تذكّرني الغيمة المربوطة بخيط بطائرات الأطفال التي تحلق بحرية في الأعالي. فهناك تزداد الخفَّة، وفي الأعلى تتراجع الجاذبية الأرضية، ولكن عكس الغيمة التي تؤدي غرضاً ويحكمها الغلاف الجوي، فإن الأحلام بوسعها أن تفعل، بمعونة الكلمات، وربما الصور، من دون منّة الكلمات، وربما بمادة أخرى غير مسمَّاة.
وأنا أكتب هذه الكلمات في مقهى دخلت خيول مطهمة، مثل خيول أجدادي القدماء وطلبت قهوة بالحليب! هل هذا ممكن؟ سنقول فوراً: كلا. الخيول لا تدخل إلى المقاهي ولا تجلس مثلنا إلى طاولات، ولا تشرب قهوة بالحليب. لقد كان حلماً إذن!
عندما يدفعك كتاب إلى عيشه، وتقمصه، أو بعضه، فهذا يعني أنه نفذ إليك، وحرَّك ذلك الدينامو الغامض الذي تولد منه الأحلام، الخيالات، الصور. لقد شوَّشت أحلام عبده يقظتي التامة. فأنا في الضحى العالي يقظ، أقرأ كتاباً وأحتسي قهوة. هل هناك صحو أكثر من ذلك؟ لقد جئت خصيصاً إلى هذا المقهى قليل الرواد لأنعم بانفصال عن محيطٍ يرى شخصاً يقرأ كتاباً من اليمين إلى اليسار في مكان يقرأ فيه الناس، عادة، من اليسار إلى اليمين، لكن هذا القارئ الذي لا يعرفونه تتقلَّب ملامحه، يبدو كأنه يحلم.
يتساءل عبده في مقدمة كتابه: ماذا تعني هذه الأحلام لشخص آخر (لم يحلم بها)؟
 أنا الشخص الآخر أجيب: إنها تعنيه لأكثر من سبب.
أول هذه الأسباب فني. فأنا هنا لست أمام أحلام خام، بل حيال عمل أدبي/ شعري، رغم هيولية مادته، منحوت. لا زيادات فيه ولا استطرادات. كل قطعة / قصيدة منضبطة في حدود جنسها الكتابي وإن لم تكن مادتها كذلك. انضباط الكتابة لا يتعارض هنا مع هيولية مادة الكتابة، وأمام العمل الفني لا نطرح سؤال المصداقية الواقعية، بل المصداقية الفنية.
ثانياً، يتبدَّد، هنا، سؤال الحقيقة الذي يطارد الأعمال الفنية، مذ قال أرسطو إن الفن محاكاة للطبيعة / الواقع، فهذه أحلام. وعالم الأحلام غير منطقي، وغير عقلاني، ولا يتراصف، كما تتراصف أمور الواقع، وهو لا يتكوَّن وفق إرادات قادرة على تشكيله وتطويعه.
ليس في أحلام عبده وازن ما لا نعرفه. لم تخترع تلك الأحلام مادة غير مألوفة، إن لم أقل غير مستخدمة. إنها مكونة من عناصر واقعية، أو ممكنة التخيل، لكن سحريتها تكمن في المونتاج الذي يجريه عليها اللاوعي.. أو ما يمكن أن أسميه: التوضيب الداخلي. هكذا تنتج هذه العناصر المألوفة، أو ممكنة التخيل، ما هو غير مألوف وغير ممكن إلا في الحلم.
يقدم عبده كتابه هذا بشروح وتفسيرات، أو تحليلات، تتعلق بالأحلام، وهذا في رأيي نافل، لأنه يدفعنا للتعامل مع قصائد النثر هذه باعتبارها “حقيقة”. وهذا غير ممكن، لأن الأمر لا يتعلق هنا بالأحلام بحد ذاتها بل بتحولها إلى مادة شعرية منضبطة في حدود شعرية قصيدة النثر. هكذا سيّج عبده غيمته في حيِّز وحدٍّ.. لكن هذه الغيمة اكتسبت قوة دفع داخلية وأفلتت من الخيط.  
نقلا عن المنبر الثقافي العربي “ضفة ثالثة “

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى