لم يكن هناك ما يعلن عن شيء من الرّطوبة او الانتعاش، تلك الظهيرة حملت له صمتا لم يعتده منذ أن عانق أم أولاده وتعاهدا على أن يكون الضّجيج واحدا من أسلاك القفص الذي دخلاه، لم يكن هناك ما يعلن عن شيء من الرّطوبة او الانتعاش، تلك الظهيرة حملت له صمتا لم يعتده منذ أن عانق أم أولاده وتعاهدا على أن يكون الضّجيج واحدا من أسلاك القفص الذي دخلاه، الظهيرة يشتد صمتها ولا مكن يتحرّك كي يبعث شيئا من الهبوب يشرب عرق الجلد الذي يلصق بعضه على بعض، لا شيء مريحا سوى رشّاشات الماء، المغسل رفيق هذه الظهيرة ودالية العنب التي رمى جسده تحت ظلها، لما استلقى على ظهره أخذت عيناه ترصدان ما تناثر في الظل، سلك نُشرت عليه بعض الملابس، تي – شرت يحمل صورة مغرية لأحد شواطئ المحيط الهادئ، عناقيد دالية جفّت حبّاتها وتشقّقت، يبدو أنّها أصيبت بأحد الأمراض، لكن الغريب أنّ منبت جذعها كان مبلّطا بالإسمنت، يبدو أنّ الجرذ كان يتسرّب من هناك إلى البيت فخافوا من الطاعون، لا بد من إهلاك الأخضر ليعيش الرّمادي، قرب وسادته رقد كتاب “الإنسان المتمرّد” الذي يروي حكاية العبث عند كامو، يرمي ببصره قليلا عبر أرجاء المستودع الذي لم يشأ صاحبه أن يسقفه ليتنسّم هبوب البحري، كان قريبا من شاطئ “بوزجّار”، لكن الحرارة المكثّفة بالرّطوبة خنقت ما تبقى لديه من قدرة على مقاومة الحنين إلى كثبانه.
اقتحمت الزّوجة خلوته حاملة صينية شاي وقليلا من الحلوى، وضعت ما بيدها ثم راحت تنزع ما علق بالسلك من ملابس، يداها تطاولان الماسك ورأسها نصف مستدير إلى الخلف يتدلى صوب زوجها، فاجأته بينما كان يحلق في أعماقه المتصارعة:
– لم لا تخرج لتكتشف المدينة وتطرد الملل قليلا؟
كان الـ (تي – شرت) بيدها، تهم بوضعه في سلة الغسيل، فردّ عليها وهو يدلق جرعة شاي في حلقه:
– متى تصبحين كالبحر أشتهي ملحك؟
غرست في وجهه نظرتها الدّهشة، وفي حركة مداعبة مدّت يدها صوب جبهته:
– ما زلت كالبارحة لم يمسسك طائف الحمى.
ثم غطست في ضحك هذياني.
أصابته نوبة ضحك هو الآخر ثمّ شدّ بيدها وأجلسها بقربه، صبّ كأس شاي وعلى شرشراته راح يحدّق فيها ثم ندّت عنه كلمة:
– ما أقصر العمر، البارحة فقط كانت ليلة عرسنا واليوم تتجهّز ابنتنا سارة للزّواج، ما أثقل هذه الحرارة التي لا تذكّرنا سوى بالنّهايات.
لم يكد يكمل الكلمة حتى نادت سارة من داخل البيت على أمّها كي تأتي لتبعد عنها أختها الصّغيرة، بدأ التناوش المعتاد منها، لم تزد الزّوجة على:
– الحمد لله ما زلنا صغارا…
– سوف أقضي الليلة هنا في المستودع أتمتّع بوجه السّماء الواسعة..
وهي ترمي آخر خطواتها نحو الداخل:
– ووجهي، ألا يروق لك..
– الملح سوف يكون فاكهة قعدتنا.
أدار وجهه نحو منبت الدالية وفكر لو استبدل الإسمنت بالملح، ماذا سوف كان يحصل للجرذ، ربّما أصابه ارتفاع الضغط، أو ربّما انتعشت أوصاله وصار مليحا كزوجته، أو ربّما صار تاجرا كبيرا يصدّر الملح للجرذان التي قد تكتشفه كمستحضر للتّجميل وإطالة العمر، ربّما.. وربّما.. لكن يعود فيتذكر أنّ إحدى العجائز أخبرته يوما عندما احتار في كيفية تسلل الجرذ من التراب، بأنّ هذا الأخير يرتخي حتى يصير شكله هلاميا ثم يعود فيتشكل بعد انسلاله من التراب، يومها يتذكر جيّدا أنّه فتّش عن عقله بشفتين تشفطان بقوّة آخر بقايا فنجان القهوة دون سكّر.
الجو يمكن أن يكون منتعشا في الخارج، الشارع بدون عرق الأجساد ماذا نسمّيه، بدون الملح هل يمكن أن يكون شارعا، نعرف بعضنا في الشّارع من خلال الرّوائح، هل الملح من الملاحة؟
تدور برأسه شتى الأفكار، يطل من جسده كما يطل الجرذ من جحره، يلعب برأسه ينط فوق جسده يتحسّس ما يحيطه، الحرارة..
لعنة الله عليها أينما حلّت..
كان المطاف قد انتهى به إلى موقف الحافلة، وقف محاذيا لعمود كشك الانتظار، يحرّك يديه تارة حول وجهه مستجلبا شيئا من الهبوب، وتارة أخرى يمشي ويجيء لمسافة قصيرة قرب موقف الحافلة، يستدير ليعيد الخطى نحو الموقف، كأنّه جمد في مشيته الكسولة، لعبت عيناه في رأسه، قبالته وقفت لعوب ترتعش فوق جسدها، تنغز الأرض بكعب حذائها، كأنّها ترقص خفية على لسع كهربائي، تزداد حرارته كلما غيّرت من ملامح وجهها ورمقته بنظرات مشبوهة، ما زال متسمّرا في وقوفه كأنّه ينتظر من يفك رباطه، أخرج سيجارة، بحث عن القدّاحة فلم يجدها، ضرب على جيبه الخلفي متحسّسا شيئا كالقدّاحة، إنّها هي بالفعل، ضحكت في صمت واضعة يدها على فمها، خرجت الضّحكة مكتومة ومعها أردفت في غنج:
– تعال أشعل سيجارك في مؤخرتي.
ارتفعت درجة ارتباكه وحرارته، مدّ يده إلى شفتيه، كانت جمرة السيجارة تنطفئ في لعاب فمه، لم تدس ضحكتها التي انطلقت مدوّية، كتم حرائقه وفي الطريق إلى البيت اشترى علبة ملح، نثر بعضه في الطريق كما كانت تفعل أمّه يوم العيد حين ترش الدم المراق بالملح، كثّف من خطواته المهرولة وعند باب البيت تذكر أنّ زوجته أوصته بأن يعدّل زجاج نظارته، صاح في داخله:
– هل حقيقة ما رأيت؟
*قاص من الجزائر