كان مشهدًا مؤثرًا، رجل كبير في السن جُبل على الصرامة والتصلب، حتى أنه لم يسمح لولده البكر بالعودة إلى البيت حتى في يوم استشهاد أحد أبنائه، لا يؤمن بمراسيم المصالحة في أشد اللحظات عاطفية ولين، لقد انهار هذا الرجل باكيًا أمام الناس وهو يسلم على أحد أبناء الأستاذ محمد الياسري. لقد عادت أسرة المذيع إلى القرية من صنعاء بعد موت الأب نازحًا مبدعًا في مأرب.
كان مشهدًا مؤثرًا، رجل كبير في السن جُبل على الصرامة والتصلب، حتى أنه لم يسمح لولده البكر بالعودة إلى البيت حتى في يوم استشهاد أحد أبنائه، لا يؤمن بمراسيم المصالحة في أشد اللحظات عاطفية ولين، لقد انهار هذا الرجل باكيًا أمام الناس وهو يسلم على أحد أبناء الأستاذ محمد الياسري. لقد عادت أسرة المذيع إلى القرية من صنعاء بعد موت الأب نازحًا مبدعًا في مأرب.
كان بن علي، وهو الاسم الذائع في القرية للياسري، رجل الجميع، قد مرض في مأرب. بعد فترة شاقة من العمل، كان يدير إذاعة خاصة بدأت تشتهر هناك، كل برامجها من إعداده، القروي الواثق من نفسه يشق طريقه بلا واسطة، كان مقاومًا على طريقته يوجه الرجال من خلف سماعة الراديو ويحفزهم على الوطنية. كان صوت الشرعية. وصورتها المواربة خلف الكاميرا، كان يعمل في قناة خاصة أيضًا منذ تأسيسها. لم ينحن لرياح الإهمال.
علق عليّ عندما كتبت عن معاناته في مرضه، بأنه يعامل الله ويثق بأنه الله لن يخذله.
هذا هو المبدأ الذي جبل عليه مذ كان في القرية، سنة ما، كنت ضمن فريق مع الياسري، يتنقل بين قرى البلاد في ليالي رمضان، ليلقي عليهم الدروس حول المبادئ، كان وضيئًا كنجمة الصبح، لا يرضخ للأزمات المادية التي كانت تلازمه، أحيانًا يحضر بلا قات ليجمع له الناس، ذلك لا يهمه، إنه فقط يعامل الله. أما التهمة التي يصادفها من بعض أصحابه المازحين الذين ينتمون لحزب المؤتمر، بأنه يستقطب الناس للإصلاح. وتلك تهمة الحاسدين على تواضعه الجم. مرة، في رمضان دعته أسرة مهمشة للعشاء ودعاه شيخ معروف كذلك، لبى الأسرة المهمشة في اليوم الأول، وفي اليوم الثاني لبى دعوة الشيخ، طفق الشيخ وحواشيه يعاتبون بن علي كيف ذهب ليأكل العشاء عند الأسرة المهمشة، خرج من هذا العتاب بضحكة ودرس: الله خلقنا سواسية. وحين أفرغ من العشاء عند الشيخ قال حكمه بلا تردد:
«الطعام الذي أكلناه عن فلان “الأسرة المهمشة”، أفضل وأكثر وألذ، ومن كثرة الفواكه تركنا الكثير أمامنا، بعكس الشيخ».
وكان بن علي لا يجامل، ومع ذلك يضحك، وينصح، يوجه ويعلم. هذا ما جلب له محبة الآخرين، ولأنه بسيطًا فقد أحيط بالإهمال، ولم يتبرم.
في مأرب، ومع مأساة الحرب، زادت عليه الضغوط، كان يحمل على رأسه مسؤولية إذاعة، بعد أن كان من الفريق المؤسس لإحدى القنوات، بعيدًا عن أسرته، بدأ صوته بالذيوع، يألفه رجال الجبهات.
أصيب فجأة بجلطة، نقل على إثرها إلى سيئون.
كان بحاجة إلى السفر للخارج، كتبت عنه، الإذاعة هي المقاومة، والمقاومة هي الشرعية، لم تفعل الإذاعة شيء باستثناء صرف راتبه، كل البرامج من بنات أفكاره، إنه يذيع ويدير ويخطط ويفعل كل شيء بمائة وخمسين ألف، ربما الحالة المادية عمت كل شيء، المقاومة التي هو صوتها، لم تسفره للخارج للعلاج، ولا الشرعية. وهذه الأخيرة، في الفترة التي كان بن علي يترنح إلى الفراش الأبيض، كانت منشغلة باستقطاب صحفي عفاشي يشتم الشرعية ويلعن جذورها، كانت تستقطبه وتصدر قرارًا بتعيينه وكيلًا لوزارة الإعلام. وهكذا انقلبت معايير الاهتمام والتكريم.
أما القناة التي عمل فيها، فقد عجزت هي الأخرى عن تسفيره، وخصصت له غرفة في مكتبها بمأرب.
“طبيعة الحياة يا سلمان.. في حياتي لم أعامل أحدًا غير الله”.. علقّ علي مع قليل من العتاب.
مات بن علي، بعيدًا عن أهله.
كتب الصديق عبدالله السامعي، وهو من شباب الإصلاح، بأن بن علي لم يكن متملقا لحميد الأحمر ولا قريبًا من اليدومي…
من الصعب تحميل هؤلاء قدر الله.
لقد قدم بن علي فوق ما يحتمل لهذه البلاد: في المدرسة، على خشبة المسرح، في المجالس والندوات، في المنابر، في الإذاعة والتلفزيون.
ورغم الذي قدمه، إلا أن بن علي لا يملك بيتًا.
لبن علي أربعة أولاد وثلاث بنات وزوجة.
قال في مرضه بأنه لا يخشى الموت. أخشى على أسرتي من البهذلة.
وفي اليوم الذي مات فيه بالضبط، قال لزميله الذي بجواره: بلغ إخواني.. أمانتكم أولادي من بعدي.
نسخة إلى الإذاعة
نسخة إلى القناة
نسخة إلى المقاومة
نسخة إلى الشرعية.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.