يزداد الأرق، ويتراكم النوم. ستفكر بالنوم العميق، لتوقظك الفاجعة.
يزداد الأرق، ويتراكم النوم. ستفكر بالنوم العميق، لتوقظك الفاجعة.
فاجعتان، استشهد شابان أعرفهما، حديثا السن من منطقتين مختلفتين، لم ينته عزاء الأول بعد، حتى استقرت رصاصة القناص الليلي أسفل رقبة الثاني.
السن ليس معيارًا لقياس الشجاعة، إذا عرفت ذرية علي مهيوب فستعرف إن الشجاعة جينات تتوالد في العائلة، نحن الذين حاولوا اكتسابها من الواقع، أحيانًا جراءة ناشفة دون تحسب لإمكانيات المقابل ومن هو.
أسد، مثلًا، كان يتلافى غضب والده بالنوم في الجبل، قبل أن يبلغ الخامسة عشر من عمره، والده كان متيمًا بوضع الأفخاخ المحكمة لضواري الجبل، من الضباع إلى الطهوش، علمَا بأن لديه يد واحدة فيما الأخرى مبتورة من الكتف، أصم ولكن قلبه يصغي إلى الوشوشات.
عمران هو الحفيد الذي استشهد برصاص قناص في إحدى جبهات المدينة، الخميس المنصرم.
أما قبله فقد استشهد وجدان العوني، أذكره صغيرًا عندما كان يأتي لزيارة جده، وهو وحيد أمه. كبر وجدان وصار أبًا، ثم.. استشهد.
لعمران قصة، ربما ما زالت جراحها طرية، ناحل الجسم، حزين كالأسرة الشجاعة كلها بعد مقتل والده قبل شهر بطريقة بشعة، كان والده مارًا في الطريق في أمان الله، سيذهب إلى معسكره لاستلام نصف راتب، لا علاقة له بأطراف الحرب ولكنه شجاع حتى في المشي بين الرصاص.
لعنتر، بن علي مهيوب قصة مع الراتب من قبل، حدثت أول الحرب. ذهب إلى الحديدة واستلم الراتب، عاد من الجهة الغربية لتعز، ألقت نقطة للمقاومة عليه القبض ليلًا، احتجزته داخل بنشر، بعد شد وجذب لساعات ومجيء قائد النقطة، تم الاعتذار لعنتر وعُرض عليه المكوث إلى الصباح، اعتذر عنتر ومشى، في الليل نفسه ألقت عليه نقطة المليشيا القبض وزجت به داخل صندقة بداخلها بنشر أيضًا، واحتفظت به إلى اليوم التالي، لم يكن في أي من البنشرين عنتر فحسب، بل مواطن يمني يبحث عن حقه في الحياة، شجاع يكره الانصياع لصخب الرصاص الحارق.
أخبرني بقصة البنشرين، صديقي موسى، الذي كان يقود القاطرة التي نزل بها عنتر ولم يصبر ليعود معها، موسى صهر عنتر وبن خالته، استشهد موسى فيما بعد بغارة للتحالف استهدفت الميناء الذي يحمل منه موسى الوقود، الضربة الجوية وقعت في رأس القاطرة.
عنتر شداد هو والد عمران.
كنا نذهب سوية إلى المدرسة، مع موسى، سنة ما قررت إعادة الثانوية بالقسم العلمي والاستغناء عن شهادة القسم الأدبي، سجلت في غير مدرستي بالطبع، كنا مجموعة كبيرة من الصغار والكبار تذهب للمدرسة: أسد، موسى، أحمد، عاهد، عمران، عبدالله… إلخ. عمران هادئ وناحل كعود الذرة، ذات يوم كان يلعب مع أخيه بالعلب الفارغة، التقط عمران علبة من ناصية الطريق ليرشقني بالعلبة دون قصد، تبقع قميصي الأبيض ببقع العصير، سيواصل الطريق محرجًا ومبتسمًا بشجاعة أمام غضبي، تحولت إلى نكتة، ضحكت كثيرًا مع موسى لسنين بعدها من طرافة الموقف، أما في ذلك الصبح سأعود وموسى من نصف الطريق لأتخلى عن فكرة القسم العلمي تمامًا.
رفقة الطريق يغادرون واحدًا واحدًا، بين اغتراب وذهاب لمتارس المدينة، بين إصابات وموت.
أحمد، عبدالله، أسد،
ثم غادر موسى الذي لم يعد إلى المدرسة، وتعلم قيادة الشاحنات الكبار.
القاطرة التي حملت عنتر ذات يوم لم تعد.
وعنتر تم اختطافه، قبل شهر، من قبل متحوثي المنطقة المجاورة، بسبب قضية مختلة التفاصيل ركيكة المبنى، قضية لا علاقة لها بالحرب الدائرة، ولا بالحوثية وداعش، لا بمليشيا المخلوع ولا بالولاء للمقاومة، تعاونوا عليه داخل منزل وتبادلوا الضرب، لم يذعن عنتر، من يعرفه سيؤكد بأنه قاوم الخاطفين القتلة وقد تكالبوا عليه، أخذوه إلى أسفل الجبل، ظهرت على جثته آثار تعذيب، سحل ومحاولات خلس للجلد، ضربات فأس وطلقات رصاص.
لم يصدق عمران في البداية، لكنه استسلم للأمر الواقع بعد تأكيدات جمة وصلته إلى مكانه في المدينة، لم يستطع كسر الحصار للعوة إلى جثمان أبيه وإلقاء نظرة الوداع قبل الدفن.
سأل صاحبه:
“هل عذبوا أبي، قبل قتله أم بعد؟”
رفاق الطريق يواصلون المغادرة.
عمران في المدينة، يحمل وجهًا طفوليًا ووعيًا يبلغ سن الحكمة، وثق به الكبار حتى أنهم سلموه معدل 12/7 وتركوه في التبة وحيدًا عندما أول يوم لدخوله. الشجاعة الزائدة جعلت من بعض أبناء المنطقة سحب عمران إلى منطقة هادئة، لكنه كان يمل الجلوس في المجالس المؤثثة بالنمارق المشوبة ببقايا الركام، كان يريد الذهاب إلى الجبهات، وقد زادت وتيرة حماسته بعد مقتل أبيه، تنقل ببندقية مستعارة، إذ أن اسمه مازال في الكشف الملحق مع الذين لم يستلموا الرواتب بعد، استشهد الخميس بطلقة قناص.
سيتأجل الدفن قليلًا، ريثما تجد أمه منفذا وعرًا تدخل منه إلى المدينة لرؤية جثمان كبدها المسجى.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.