لم “أتشرَّف” بلقاء تعارفي يجمعني والمرحوم محمد خميس، لكنني سمعت عنه الكثير من الحكايات والوقائع التي يشيب لهولها الولدان ويبيضُّ ريش الغربان، وقد عرفت معظمها من شهود عيان ومن ضحاياه الذين كتب الله لهم عمراً جديداً. لم “أتشرَّف” بلقاء تعارفي يجمعني والمرحوم محمد خميس، لكنني سمعت عنه الكثير من الحكايات والوقائع التي يشيب لهولها الولدان ويبيضُّ ريش الغربان، وقد عرفت معظمها من شهود عيان ومن ضحاياه الذين كتب الله لهم عمراً جديداً. ولعلّ أبرز ما لفت انتباهي في هذه الوقائع أو تلك الجرائم حالة الحقد القاتل التي يكنّها لضحاياه، إلى درجة تدعوه لقتلهم أو تعذيبهم حتى الموت بدم بارد أو بروح مطمئنة، وهو ما يعتقده البعض ايماناً راسخاً بالقضية الوطنية التي يحارب من أجلها ضد مجموعة من المخربين والملحدين والأوباش، فيما يراه البعض الآخر خيانة للوطن والشعب وقضاياه العليا، فيما يتفق الجميع على بلوغ الرجل حالة من المرض النفسي أو العصبي الخطير يجعله يستمتع بل ويتلذذ بتعذيب ضحاياه! .. حتى أنني اثر قراءاتي لمناهج ووسائل التعذيب التي أبتكرها وزاولها الحجاج بن يوسف وزياد بن أبيه وغيرهم ممن ورد ذكرهم في كتب التراث، صرت أرى محمد خميس ماثلاً أمامي في هيئات هؤلاء.
حكى لي الصديق الأستاذ عبدالباري طاهر كثيراً من تلك الملاحم الخميسية. وحكى أدباء واعلاميون ومثقفون وساسة كثيراً من وقائع حفلات التعذيب التي كان يقيمها صاحبنا وأزلامه على شرف الضحايا من يساريين وناصريين ومابينهم من مشارب ومذاهب فكرية وسياسية شتى، أجدها -والله- جديرة بتفجير قرائح الابداع السردي شلالات منهمرة. كما حكى لي الصديق والزميل أحمد أحمد الشرعبي -بأنامله التي حملت أدلّة التعذيب- قصة تعذيبه على يد أحد ضباط البوليس السياسي الذي صار بعدها رئيس تحرير صحيفة، ثم رئيس حزب لاحقاً. ولعلّ الفضل في “توبة” ذلك الضابط عن التعذيب و “امتهانه” الصحافة يعود إلى العزيز أحمد الذي لاشك في أنه أستطاع اقناعه -ربما من حيث لا يدري ولا يقصد- أن الصحافة تتيح له مجالاً أوسع لممارسة “المتعة” ذاتها، وبالقانون، وفي العلن!
أما الأديب الرائع فؤاد عبدالعزيز -رحمة الله تغشاه- فقد كان حين يواجه مخبراً، ولو في قارعة الطريق وليس في مبنى البوليس السياسي، ينسى -فجأة- مفردات اللغة العربية ليجد لسانه ترطن باللغة الأمهرية!. وكان فؤاد أحد النزلاء الدائمين في شاليهات الأمن السياسي ذات الستة نجوم!. وحكى العزيز فوزي العريقي سلسلة من فظائع التعذيب التي تعرّض لها وعدد من رفاقه وزملائه ذات عهد. وقد وثَّق ذكرياته بتفاصيل جمّة بما فيها قائمة بأسماء المعذِّبين والمعذَّبين على السواء.
.
.
هل سنحاكم -يوماً ما- قتلة ومعذِّبي خصوم الرأي والفكرة ومعارضي السياسة؟
سألتُ نفسي اثر أن قرأتُ ذات يوم خبراً عن محاكمة القضاء الفرنسي لأستاذ جامعي ثبت أنه كان يعذب أبناء وطنه المعتقلين في سجون فيتنام خلال الحرب العالمية الثانية.
.
.
ما هذا الهراء الذي أكتبه؟
كيف أتحدث عن محاكمة جلاوزة القتل والقهر والقمع والتعذيب في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وكأنَّ الحقبة السوداء قد أنطوت وملفاتها قد أكتملت ولم يبقَ الاَّ محاكمة رموزها وأدواتها؟
إن فصول المأساة لم تكتمل بعد!
ثمة اليوم قتل وقهر وقمع وتعذيب يُمارَس في معتقلات سرية بالغة السوء وحقيرة الوضع تحت سيطرة السلطتين الحاكمتين: الانقلابية شمالاً، والاماراتية جنوباً. وثمة اعلاميون وأهل رأي سياسي وفكري وناشطون حقوقيون ومعارضون -للسلطتين في صنعاء وعدن- لازالوا يقبعون في الأقبية خلف الشمس ، وتتواتر الأخبار عن وفاة بعضهم تحت وطأة القمع، فيما لا يزال ثمة رمق -ربما أخير- في روح البعض الآخر.
إن حفلة التعذيب مستمرة في هذا اليمنكان حتى هذه اللحظة.. والدعوة مفتوحة!
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.