شهدت العقود الماضية ميلاد مصطلحات لها علاقة بالإسلام، مثل مصطلحي «الإسلام السياسي»، و»الإسلام الجهادي»، اللذين ينفتحان على دلالة التقاطعات بين الدين وميادين السياسة والقتال.
شهدت العقود الماضية ميلاد مصطلحات لها علاقة بالإسلام، مثل مصطلحي «الإسلام السياسي»، و»الإسلام الجهادي»، اللذين ينفتحان على دلالة التقاطعات بين الدين وميادين السياسة والقتال.
هذه المصطلحات وغيرها، ولدت أصلاً لدى رصد الظواهر المتعلقة بها عند الباحثين في الدراسات الاستشراقية، وضمن سياقات ثقافية ولغوية غربية، ثم ترجمت بعد ذلك إلى اللغة العربية، وشاع استعمالها عند الكثير من الباحثين الإسلاميين أنفسهم.
الإسلام السياسي والإسلام الجهادي يندرجان ضمن المنظومة الأشمل، وهي المنظومة التي أطلقت عليها الدراسات الاستشراقية ذاتها مصطلح Islamism الذي ترجم إلى «الإسلاموية»، التي لا تعني الإسلام لأن الإسلاموية أيديولوجيا فيما الإسلام دين. وعلى الرغم من مقولات الإسلاميين إن طروحاتهم مأخوذة من مبادئ الإسلام، إلا أن ذلك لا ينفي مزجهم القيم الدينية بالشعارات الأيديولوجية.
الفكرة الرئيسية في الإسلاموية بشقيها السياسي والجهادي، تتمثل في الكفاح للوصول إلى فكرة «الدولة الإسلامية»، في شكلها «الخلافي السني» أو إطارها «الإمامي الشيعي»، هذا الشكل الذي نلحظه في تبني «داعش» في السنوات الأخيرة لـ»دولة إسلامية»، كما نلحظه في شعارات الجماعات الشيعية المتطرفة في العراق وسوريا، وهو كذلك لدى نظام «ولاية الفقيه» الذي يعد النسخة الشيعية ليوتوبيا الخلافة السنية، بصورتها النمطية لدى كثير من الإسلاميين. وقد جاءت «الإسلاموية» – كتيار- كما هو معروف نتيجة لانهيار الدولة العثمانية، التي كان المسلمون ينظرون إليها على أساس أنها «دولة الخلافة الإسلامية»، وتشكلت حركة الإخوان المسلمين عقب انهيار تلك «الخلافة» كردة فعل وجدانية وفكرية وسياسية في الآن ذاته، على هذا الانهيار الذي لم يكن سهلاً على المسلمين آنذاك تقبله.
بعد ذلك تكرست الفكرة الإسلاموية، التي تفرعت منها جماعات تؤمن بالعمل السياسي للوصول إلى هدف إقامة الدولة الإسلامية، بناء على حلم «الخلافة»، الذي ظل يلمع في أذهان الكثير من الإسلاميين لعقود طويلة، كما جاءت منها الجماعات التي تؤمن بالتغيير المسلح في شكله الجهادي، حسب تصورات محدودة لمفهوم الجهاد في الإسلام، للوصول إلى الهدف ذاته. وقد ترشح مؤسس جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر حسن البنا لعضوية البرلمان المصري، وهو ما يحيل على البعد السياسي للإسلاموية، كما شاركت حركة الإخوان في أعمال عسكرية ضد الإنكليز، وكان لها مؤيدون شاركوا في حرب 1948 ضد إسرائيل، ودخلت في صراع عنيف مع نظام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، الذي قيل إنه كان أحد أعضائها في تنظيم الضباط الأحرار، قبل أن يندلع الصدام المرير بين الطرفين بعد ثورة 1952، وذلك يحيل على الأبعاد الجهادية في هذا التيار.
وكما ذكرنا فقد كان للحرب على الدولة العثمانية التي أدت إلى سقوطها، وموجات الاستعمار الحديث أثرها في تشكل تيارات الإسلاموية بشقيها السياسي والجهادي، في ردة فعل طبيعية على الهزيمة القاسية التي تعرض لها المسلمون بانهيار «الخلافة» وللتصدي للعدوان العنيف الذي شن عليهم في الحملات الاستعمارية المختلفة، التي لم تكن حرباً عسكرية وحسب، بل ثقافية ودينية وبأبعاد أخرى. ومن هنا خرجت تيارات الإسلام السياسي والإسلام الجهادي كإفراز طبيعي للمرحلة، واستجابة لشروط تاريخية معينة. وعلى الرغم من المتغيرات المذهلة التي طرأت منذ بدايات أفكار الإسلاموية، إلا أن التغير المصاحب داخل تلك التيارات، لم يكن على مستوى المياه الغزيرة التي جرت من تحت الجسور الكثيرة، خلال عقود طويلة من الزمن. ومع ذلك يمكن أن نلحظ بعض التغير في المسارات الفكرية لهذا التيار، فقد كانت الأفكار المؤسسة لتيار الإسلاموية تمثل ردة فعل واستجابة لمؤثرات خارجية في البدايات، الأمر الذي جعلها في حالة عداء مع الآخر الأجنبي، إلى أن أتيحت الفرصة للكثير من الإسلاميين للعيش في الغرب، بفعل عمليات القمع التي واجهوها من قبل الأنظمة، حيث كان لهذا دور في محاولات داخل هذا التيار لإعادة فهم العلاقة بين الغرب والإسلام، وإتاحة الفرصة لبعض المراجعات، وهي المراجعات التي قام بها الكثير من الإسلاميين على مستوى العلاقة مع الآخر والكثير من الجهاديين على مستوى العلاقة مع الأنظمة، في مصر تحديداً، قبل أن تنقلب طاولة الشرق الأوسط بالغزو الأمريكي للعراق، الذي ولّد أعنف موجات الإرهاب المؤدلج، وصولاً إلى تنظيم «الدولة الإسلامة» اليوم.
ومع المحاولات البطيئة للتيارات الإسلاموية لتطوير أدائها مع نهاية القرن الماضي، لوحظ التركيز على ملمح آخر من ملامح هذا التوجه، يمكن أن يطلق عليه «الإسلام الوظيفي»، وهو توجه يأتي من الفكرة الإسلاموية ذاتها، لكنه يحاول أن يقوم بإعادة قراءة للفكرة الإسلاموية، مع إعادة ربطها بالمجتمع نفسه، والتخفف قليلاً من طروحات الإسلاموية السياسية والجهادية لصالح محاولات ربط الإسلام بوظيفته الكبرى في نفع الناس، على أساس من النص النبوي المعروف، في أن «الخلق عيال الله (هو الذي يعولهم ويرزقهم)، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله».
لا تخلو- بالطبع- فكرة «الإسلام الوظيفي» من التوظيف السياسي، إذ في نهاية المطاف تقوم المؤسسات التي تقدم خدمات معينة في كثير من الأحيان بمحاولات لتحويل المنجز الخدمي إلى رصيد سياسي، كما هو واضح في اتكاء حزب العدالة والتنمية التركي على الجوانب الإنمائية، والاعتماد على النجاح الاقتصادي لتحقيق الأغراض السياسية المرجوة، بالوصول إلى السلطة عام 2002 ، ثم الاستمرار فيها قدر المستطاع، أو على الأقل إلى عام 2023 كما يريد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. ومع ذلك فإن التركيز على الجوانب الإنمائية في توجهات الإسلاميين يتيح جواً من التنافس ويقلل فرص تفجر الصراع.
ويكمن هنا رصد بعض التحولات لدى تيار «الإسلام السياسي» لصالح تيارات «الإسلام الجهادي»، أو توجهات «الإسلام الوظيفي» الذي يمكن أن يكون له دور فاعل، ليس في عمليات التنمية والعمل الإنساني والاجتماعي وحسب، ولكن في جعل الصراعات السياسية والعسكرية تتحول إلى ضرب من التنافس الاقتصادي، من دون أن ننسى أن التركيز على «الإسلام الوظيفي» سيساعد على إعادة توجيه المصطلحات التي تعرضت لكثير من عمليات التفريغ والتعبئة، ضمن السياقات الإسلاموية الشعاراتية التي جنت على المسلمين الكثير، من دون أن تكون على مستوى الخطاب الذي تصوغه.
إن الاهتمام بالتوجهات الخدمية والتنموية يعني «أنسنة الإسلاموية» بفكرة «الإسلام الوظيفي» الذي هو جوهر الدين، وهو ما يقرب الإسلام من حياة الناس، ويساعد على ترجمة النصوص المقدسة إلى لغة مفهومة، وتجسيد تلك اللغة في واقع حي يراه الناس ويلمسونه على مستويات التعليم والصحة والبنية التحتية والشبكات الخيرية وشبكات الضمانات الاجتماعية، دون إغفال الجوانب الاخرى.
«الإسلام الوظيفي» سوف يخفف من حدة الاستقطابات الطائفية التي تعصف بالمسلمين اليوم، وسوف يساعد على ردم الهوة بين الأنظمة والحركات الإسلامية، من دون أن يتخلص منها، وسوف يعمل على تقديم جانب مشرق من جوانب الإسلام يتجسد في دعوته إلى أعمال البر والخير والإحسان. وإذا كانت الأنساق المادية الدنيا تؤثر في عمليات تشكل الأنساق الفكرية العليا كما ترى الماركسية، فإن الاهتمام بالإسلام الوظيفي سيؤثر بلا شك في عمليات إعادة تشكيل الوعي المسلم، وسيساعد على إعادة تدوير المفاهيم والمصطلحات، وسيغير كثيراً مما كان ينظر له على أساس أنه من الثوابت لدى التيارات الإسلاموية ليتم التعاطي معها وفق متغيرات الزمان والمكان، وفوق ذلك فإن فكرة «وظيفية الإسلام» ستجعل قيم الإسلام، لا أعراف المسلمين هي السائدة، وستساعد في إخراج المسلمين من دائرة التنظير العدمي، والصراع العنيف والمستمر منذ فترات طويلة، إلى واقع آخر يساعد فيه الإنتاج على إعادة تشكيل الوعي وترتيب الأولويات. هذه الفكرة ستتيح الفرصة لإعادة فهم تراثنا الإسلامي، في ضوء المتغيرات المستجدة.
أخيراً: على من يرى أن الإسلام هو السبب في تخلف المسلمين، وكذا من يرى أن الإسلام هو السبب في تقدمهم، أن يعرفوا أن الإسلام هو مجموعة نصوص ومفاهيم ومعتقدات لا تكون سبباً في تقدم أو تأخر إلا بالطريقة التي يتم فهمها وتأويلها ومن ثم ممارستها، وما هو أهم من ذلك فإن على الفريقين أن يعرفا بأن العمل على تقدم مجتمعاتنا سيؤدي إلى تطور فهمنا للإسلام نفسه، وسيعيد بناء تصوراتنا وترجماتنا لتراثنا الإسلامي بطريقة أكثر مدنية وحضارة، وهو الأمر الذي سيستفيد منه المسلمون ديناً ودنيا.
نقلا عن القدس العربي