فكر وثقافة

الحياة كقصيدة شعر

حبيب سروري

شاعريةُ الحياة، أو الحياة كقصيدة شعر، كما يقول الفيلسوف إدغار موران: “صلاةٌ جمعية، اتقادٌّ دائم، صداقاتٌ وعشقٌ يغيّر الحياة؛ بحثٌ عن الجودة، لا سيما الجودة الجمالية التي تجعلنا نشهق من الدهشة والنشوة أمام جمال الطبيعة، غروب شمس، طيران يعسوب، نظرة قاتلة، وجه ساحر، لوحة فنيّة، رواية تغوص بنا في عمق الذات…

شاعريةُ الحياة، أو الحياة كقصيدة شعر، كما يقول الفيلسوف إدغار موران: “صلاةٌ جمعية، اتقادٌّ دائم، صداقاتٌ وعشقٌ يغيّر الحياة؛ بحثٌ عن الجودة، لا سيما الجودة الجمالية التي تجعلنا نشهق من الدهشة والنشوة أمام جمال الطبيعة، غروب شمس، طيران يعسوب، نظرة قاتلة، وجه ساحر، لوحة فنيّة، رواية تغوص بنا في عمق الذات…

الشاعرية تحمل في طياتها مفهوم المقدّس والعبادة، ليس لإله، ولكن للجمال”.
أما الحياة كنثر فشيءٌ معاكس آخر: حياة بلا إيقاع، خضوع للضرورات، لسلطة الأرقام، للقيود والواجبات.
يقول الفيلسوف: “الحياة كنصٍّ نثريّ مجرّد بقاءٍ على قيد الحياة. أن تحيا هو أن تحيا كقصيدة شعر.”
هذا الطراز من الحياة، أي “الحياة شعراً” حسب تعبيرٍ اخترعهُ رامبو، كان موضوع ندوة في “ورشات الفكر” في مهرجان أفينيون 2017، نظمّتْه صحيفة اللوموند الفرنسية، استضافت فيه الفيلسوف الكبير، والواجهة الثقافية النسوية المرموقة كريستيان توبيرا، للإجابة على سؤال:
بدلاً من صراع الثقافات، أيمكن الرهان على سياسةٍ تتكئ على القوة الإبداعية للفن والفكر الفلسفي، أو باختصار شديد: على الحياة كقصيدةِ شعر؟
الحياة شعراً لا تعني حفظ مجموعة قصائد شعر وترديدها، أو الاهتمام بالشعر كنشاط إبداعي فقط، لكنها تكمن في الدمج العضويّ للشعر في الحياة، وتحويله إلى إيقاعها وجوهرها معا.
يمكن استيعاب مفهوم “الحياة شعرا” ضمن علاقةٍ ديالكتيكية بين الأنا والآخر (فرداً كان أم مجموعة)، تتناغمُ معه الأنا في هذه الصلاة الجمعية، على نحوٍ يحقق الازدهار الدائم للذات، كما يقول موران.
يُبعد عن هذه المعادلة ما يُسمّيهِ “الشعرَ الأسود” الذي يخنق الذات في علاقتها بالآخر، وذلك عندما يتحوّل الحبُّ إلى غِيرة مرَضية مثلا، أو عندما تكون الصلاة الجمعية حركات سياسية دموية معتوهة، نازية أو ستالينية أو متطرفة.
وعلى الصعيد الذاتي، يرى الفيلسوف أن الحياة شعرا تنبثق من علاقةٍ ديالكتيكية بين العقل والشغف. فالعقل الخالص يقود إلى حياة نثرية ثلجية، والشغف الذي يتجاوز الحدود يقود إلى الفوضى والجنون.
لا توجد في إطار هذه العلاقة وصفةٌ مطبخية لتحويل الشعر إلى جوهر حياة الإنسان وحضارته. يتحقق ذلك في الحقيقة في إطار هذه المغامرة الديالكتيكية للشغف والعقل، عبر فتح كل الأبواب لتحقيق رغبات الإنسان ومشاريعه وشغفه، بعيدا عن ضغط قيود الحياة وسلطة الأرقام والجانب النثري الإداري للحياة.
فالحياة ليس لها أن تدور فقط بين حفظِ أرقام دفع الضرائب، وزيادة مؤشر الإنتاج القومي. مهمٌّ ذلك بالطبع. لكن الأهم دوما هو تحويلها شعريا إلى بيت ثقافة بلا حدود، إلى مهرجانات حيّة دائمة تتفجّر فيها كل الفنون، إلى جدل وورشات فكر لا تتوقف…
لا يحتاج كل ذلك بالطبع إلى نشاطٍ على الصعيد الفردي فقط لوضع الشعر هدفا للحياة الذاتية، ولكن على الصعيد السياسي للدولة أيضا، لخلق الفضاء المدني الذي يسمح بتحويل الحياة الجمعية والحضارة إلى مهرجانِ شعر دائم.
عن دمج السياسة Politique بالشاعرية Poétique، تحدّثت توبيرا كثيرا.
لا يلزم أن تكتفي الدولة بتوفير المتاحف والأعمال الفنية في حياة الإنسان، ولكن عليها تحويل الشعر إلى فن للحياة.
إهمال السياسة للشاعرية اليوم، وإغراق حياة المواطن في الأرقام والخطابات الباردة، واكتفاء السياسيين بِعرض الرسومات البيانية وقوائم الحسابات لإثبات مقدراتهم المهنية، صار سمة الخطاب والممارسة السياسية اليوم.
لم يعد السياسي المهتم بالأدب والثقافة والفن، الواعي لطبيعة الإنسان ووجدانه ورغباته، المتفاعل دوما مع الأدباء (إن لم يكن هو نفسه أديبا، كما كان حال كثير من الحكام سابقا: ليون بلوم، متران…)، هي مواصفات الحاكم اليوم.
ولم يعد حتى مفهوم “السعادة” قِبلةَ السياسة، كما نادى بذلك سان جوست بعد الثورة الفرنسية. ولم يعد مكتوبا في الدساتير، كحال الدستور الأميركي قديما.
أضاع السياسيون اليوم معركة الانتصار للحياةِ عبر استيعاب حاجات الإنسان ورغباته، وفي حركةٍ متناغمة معه. يحيطهم أرمادا (أسطول) من خبراء وتقنيين يختزلون كل حياة المواطن في أرقام وخطوط بيانية لا غير، دون رسم أفق للحياة والسعادة الإنسانية، يتجه نحوه الجميع بتناضح (osmose) متّسقٍ رخيم.
صاروا لا يرون الإنسان إلا ككائن تقني فقط، اقتصادي فقط، جاهلين أنه أعقد من كل ذلك بما لا حدّ له. يجهلون تماما في الحقيقة كل أبعاد حياته، وحاجته الجذرية للجمال والشعر.
فالإنسان (الذي صنع الأديان والميثولوجيا، يحتاج جينياً للخيال، ولعلاقةٍ ما مع المجهول. والشعر يسكن في قلب كل هذه المفاهيم، بالطبع) أكبرُ من مجرد أرقام كما يعتبره سياسيو اليوم.
لذلك، تغلغلُ الشعرِ في السياسة، لِهيكلتها، ورَيِّها على الدوام، ضرورة حقّة.
في حين انتقلتْ ندوةُ موران ـ توبيرا، بعد هذه المقدمات، إلى تحديد البُعد الشعري للحضارة، أنتقلُ في هذا المقال إلى الحديث عن ورشةٍ أخرى من “ورشات الفكر” في مهرجان أفينيون، تضيء أكثر مفهوم “الحياة كقصيدة شعر” في البعد الذاتي للإنسان فقط.
“أيمكن أن يعيش الإنسان حياةً أخرى؟” كان موضوع ندوةٍ استضافت الفيلسوف فرانسوا جوليان، الذي “درس اللغة والفلسفة الصينية ليستوعب على نحوٍ أفضل الفلسفة الإغريقية”.
المقصود هنا حياة “أخرى”، second، وليس حياة ثانية، deuxième
يظن المرء غالبا أنه عندما يبدأ حياته، يختار نمطها. لكنه في الحقيقة لا يعيش هذا الاختيار إلا عندما يبدأ إدراك حتمية موتِه، وعندما يعيش الحاضرَ وهو يعي بعمق أفقَ هذه الحتمية.
يبرز حينها هذا السؤال المبدع الفذ: كيف يمكنه أن يبدأ الحياة الحقيقية الثريّة التي يختارها بوعي: حياة غرامية أخرى (مع شخصٍ آخر، أو مع الشخص نفسه)، حياة مهنيّة أخرى…؟
لعلّ شاعرية الحياة التي تحدّثتْ عنها ندوة موران ـ توبيرا تترجم هنا، أفضل ترجمة، بمفهومَين فلسفيين جديدين اخترعهما جوليان وشرحهما في آخر كتبه “حياة أخرى؟”: التجلي، والحميمية.
التجلّي مفهوم ذو أصول شاعرية. يقول الشاعر رونيه شار: “التجلي آخر جرح يسبق الشمس”.
التجلي في فلسفة جوليان سيرورةٌ بطيئة تستلهم من أضواء ماضي الحياة، لنقلها إلى منحىً آخر، ولتجاوزها…
بالتجلي يبتعد المرء عن سلوكات قديمة ما، يطوِّر كثيرا سلوكاتٍ أخرى، يُعيد قراءة نصٍّ ما باختيارٍ حر (وليس كواجبٍ مدرسي، أو كفرض واختيار غير فردي)، يُعيد الكتابة من منحىً آخر، يدفع بعباراته وكلماته أبعد من قبل، يتراجع هنا، يتقدّمُ هناك، يستثمرُ هنا، ويستقيلُ أو لا يستثمرُ هناك ليستثمرَ أفضل، يُكرّرُ مرارا، يبحث عن موارد ثقافية جديدة أو يُعيد تنشيطَ موارد سابقة…
يمنح كل ذلك الحياةَ حميميةً عميقة لا يُسبَر لها غور. لعل هذه الحميمية أدقّ تعبير لشاعرية الحياة التي تحدّث عنها موران ـ توبيرا.
مفهوم الحميمية في فلسفة جوليان هنا ذو بعد صوفيٍّ جلي. أشبه بالتوحّد الصوفي.
“عندما تكون العلاقة حميمية بالآخر، لا يحتاج المرء لأن يقول له: أحبّك!”، كما يقول الفيلسوف. (ولا أن ينشر ذلك ضمن رسالةٍ غراميةٍ حميمة يضعها لِمعشوقهِ على الفيبسوك أمام العالم، أضيفُ).
تصير الحميمية هنا رديفا لمفهوم “الحياة الأخرى”، بكل مدلولات العلاقة بالآخر، بالفن، بالموسيقى، بالأدب..
جليٌّ هنا عمق تأثّر مفاهيم جوليان، عن التحولات التي تقود إلى “الحياة الأخرى”، بالفلسفة الصينية.
حتى الموت في هذه الفلسفة يختلف عن رؤيتنا له من منظورٍ هاملتيّ: “أن تكون، أو لا تكون”. الموت في الفلسفة الصينية مجرد تحوّلٍ في محطات سيرورة لا نهائية.
نقلا عن المنبر الثقافي العربي “ضفة ثالثة”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى