لا يختلف اثنان على أن الشهيد محمد احمد النعمان من أهم العقول السياسية اليمنية المستقبلية، وأحد ابرز رواد الوعي الوطني الذين تكلموا بوضوح وغردت حمائم السلام من أرواحهم.
لا يختلف اثنان على أن الشهيد محمد احمد النعمان من أهم العقول السياسية اليمنية المستقبلية، وأحد ابرز رواد الوعي الوطني الذين تكلموا بوضوح وغردت حمائم السلام من أرواحهم.
قضى عمره وهو يدل اليمنيين على الطريق ويفك شيفرة المجهول. كانت رغبته جامحة للبناء وعدم التدمير ، كما للتجاوز وصنع التراكم لا لمحو ما تراكم والعيش في دائرة العجز الجمعي. معلومٌ انه من الجيل الثاني للأحرار، جيل ما بعد حركة 48 الدستورية، وحين نقرأه اليوم نستشعر كفاحه التنويري الصعب والمبكر.
لقد سحب الستار عن الكواليس وكان ذلك بمثابة الخطر الأكبر الذي ترصد له . ويمكن أن نستنتج بوضوح أن ظاهره كان يتطابق مع باطنه ، كما كان إدراكه واسعاً وعصياً على التحجيم. بمعنى آخر كان جامحاً وعقلانياً من ذلك النوع النادر الذي يفيض بعشق مختلف لليمن التي حلم بها . كذلك أكد النعمان باكرا على أن “المسؤولية التاريخية التي تواجهنا اليوم هي التوصل إلى صيغة موحدة لأهداف الشعب كل الشعب” فضلا عن “كل قرار يتخذ دون الاعتبار الوافي والصحيح لكل مشاكل اليمن لا يمكن أن يعيش طويلاً”.
وهكذا “ما لم نبدأ من حيث يجب البدء فإن المشكلة ستظل قائمة على أصلها دون تغيير إلا في الشكل الظاهرى”.
ومن أهم كتبه ومؤلفاته وأطروحاته السياسية والفكرية التي أظهرت عبقريته الوطنية الأصيلة :
[ لكى نفهم القضية 1957 -الحركة الوطنية في اليمن (حركتنا أين تقف اليوم؟) 1959- التاريخ الآثم 1960-ليقف النزيف في اليمن 1962- أزمة المثقف اليمني 1964-الوطنية لا الحقد 1964-الأطراف المعنية في اليمن 1965.]
بل لعل كتاب “الشهيد محمد أحمد محمد نعمان الفكر والموقف” الصادر في مارس 2001 يعد من أبرز البؤر التي تضيء شخصية كفاحية ومباغته وحيوية كالفقيد الذي كانت له أيضاً جملة من المحاضرات والمراسلات القيمة والموضوعية وطنياً.
والحاصل أن كل من قرأ النعمان سيظل يفتخر انه عرف تلك الشجاعة والمبدئية.
فالمؤكد انه من أوائل الذين صاغوا الوجدان الديمقراطي اليمني.
وإذ طرح وصايا جديدة خالدة ذات أهداف سامية الوطنية ، فإن رصاصات كاتم الصوت لم تستطع ان تكتم صوته المشرق بالتصالح والسلام والتطور لبلوغ اليمن الحديث.
غير أن الذين انزعجوا من أفكاره المجهرية الاستشرافية الصارمة هم الذين هاجوا ضد حلمه النبيل ليتم اغتياله على نحو جبان في العاصمة اللبنانية بيروت العام 74 عن 41 عاماً فقط.
والشاهد أن الرجل خاض غمار التجديد والتقدم في بنية اجتماعية انتقامية ومتخلفة، في حين ارتكزت مفاهيمه في الستينيات ومطالع السبعينيات بشكل خاص على أهمية التحول والتغيير والانتقال من حدث 26 سبتمبر إلى الأمل المرتقب وتحقيق الذات الوطنية اليمنية كما ينبغي في إطار المواطنة والدولة.
ففي السياق أشعل معارك ومكاشفات نقدية واسعة، إذ لم يكن منافقاً أو مستسلماً للوضع السائد، بل ظل يحلل ويشّخص ويشرح المشكلة اليمنية بكل جرأة ونضوج وطلاقة، محافظاً على ذاته من الانحدار كي لا تقع تحت رحمة مراكز القوى الداخلية والخارجية.
على أنها بذرة النعمان “الأب” تلك البذرة الدءوبة -كما يبدو واضحاً- هي من استمرت في أعماق النعمان ” الابن” تتأجج حتى لحظاته الأخيرة بالرغم من كل المحاذير والمعوقات التي يعتبر تخطيها آنذاك أكثر من مغامرة لاشك.
نهدف هنا عموماً إلى التبصير بقامة ملهمة في سياق الثقافة الوطنية من خلال استعراض جملة من مقارباته المؤثرة مختارة له من عدة محاضرات ومراسلات ومؤلفات .وبحسب يقيني فإن الشهيد محمد أحمد النعمان -نائب رئيس الوزراء، وزير الخارجية السابق- لو كان استمر به العمر لساهم وبشدة في تغيير وجه التاريخ اليمني إلى الأفضل.
***
-إن صناعة أقدار الشعوب لا يمكن أن تتم على شكل اقتسام الغنائم بين المتحاربين، فتلك طريقة عتيقة لا يرتضيها منطق العصر الحاضر، ولا تقرها الأعراف الدستورية اليوم، وإنما يكون ذلك بإعطاء الحق لأهله.. أي الشعب..!
*
-إن اليمن لا يمكن أن تبني من خارج ذاتها، أي أن نقطة البدء في التحول الحقيقي هي نفس المواطن اليمني لأنه هو وحدة الذات الداخلية لليمن.
*
-إنها لجريمة إنسانية أن يظل شعب اليمن ينزف دمه بهذا الشكل المستهتر، دون أن نتنادى لوقف هذا النزيف بكل الصور والأساليب الممكنة.
*
-حرج ما بعده حرج أن يجد المرء نفسه، يواجه أحلامه مواجهة المنكر لها المتبرم بها الناقد لها في عنف وشمول وعمق .واشد قسوة على النفس من هذا الحرج أن يتقبل الإنسان أحلامه وهو يجدها تتحقق بصورة مشوهة تكون في بعض حالاتها أسوأ من الوضع الذي أراد الخلاص منه.
*
-كل قرار يتخذ دون الاعتبار الوافي والصحيح لكل مشاكل اليمن لا يمكن أن يعيش طويلا. والذي نبحث عنه هو حل المشكلة وليس مجرد إرجاء مواجهتها إلى وقت أخر تنفجر فيه الأحقاد من جديد بعد أن يستعد الآخرون خارج اليمن لجولة ثانية يصفون فيها حساباتهم مع بعض داخل اليمن.
*
-السؤال الكبير الذي نواجهه بجد: هل أنتم حقاً دولة؟
إن الاعتماد على سياسة “الخوازيق” و”الشرنقات” و”المطابزة” و”الوهدار” سيفضي بنا جميعاً إلى خطر الضياع (..) إن الدولة الحديثة، النقيضة للإمامة الفردية أساسها وضوح السياسة واستقرارها.. سياسة التعامل بين رجال الدولة وقواها الأساسية. أما “المداراة والطساس” فإنما هي أسلوب هرب من المواجهة، وإرجاء للحلول اللازمة يجعل المشاكل والأزمات تنمو باطنياً في هدوء حتى تتضخم وتستعصى ثم تنفجر بالجميع.
*
-لقد وضح لنا أن الطريقة الصحيحة لتغيير الأوضاع في بلادنا هي أن يفهم مواطنونا من الفلاحين والجنود ، ان هذه الحياة ملكهم هم أولا يحيونها في سعادة، ويشاركون بني الإنسان جميعا في صنع الحضارة والتمدن. إنهم ليسوا عبيدا لأحد يتوارثون كما تتوارث الأرض وليسوا أعداء فيما بينهم. وان عدوهم الحقيقي هو ذلك الذي ينتزع اللقمة من حلق احدهم ثم يسلطه على أخيه ويوهمه انه هو الذي انتزع لقمته واستأثر بها.
*
-إن تعدد الآراء والأفكار سبيل وحيد للتطور السلمي في المجتمع. ولكن طالما ظل السلاح في الأكتاف فإننا محتاجون للتمهل والتبصر في هذه القضية حتى لا يكون حكمنا مجرد خطرة حالمة قد تجر البلاد لمزالق خطيرة.
*
-المسؤولية التاريخية التي تواجهنا اليوم في اليمن هي التوصل إلى صيغة موحدة لأهداف الشعب كل الشعب.. وإشاعة الفهم بين جميع الفئات لهذه الصيغة الموحدة، التي ستحتاج حتما لكل القوى الشعبية كي تحققها وتحميها، بقناعة واعية وإصرار دائم رصين.
*
لسنا ملكاً لفئة معينة تتوارثنا كما تتوارث السوائم. إننا بشر أحرار لا يملكنا أحد غير مصلحة قوميتنا ووطننا.. فلا شيع ولا مذاهب ولا أقاليم.. ولا زيدية ولا شافعية ..ولا هاشمية ولا قحطانية.. ولا شمال ولا جنوب.. كلنا أبناء اليمن.. واليمن فوق الجميع، ولا حكم إلا للشعب.
*
-إن علينا أن نفهم مشكلتنا على حقيقتها. فالمشكلة ليست من صنع الإمام نفسه ولكنها من صنع أبائنا وأجدادنا الأوائل منذ ألف سنة عندما اعتقدوا أن سياسة الأمور في البلاد مقصورة على أسرة معينة وان الشعب قد خلق عبيدا لها.
*
-وخلال المعركة الوطنية ضد الطغيان، لم يكن سليماً أن يلتفت المرء الحريص على انتصار قضية شعبه، لكل التناقضات التي صنعتها كل عهود الظلام والطغيان، وإنما تتركز كل الاهتمامات، وتوفر كل الجهود من أجل الخلاص من العدو الرئيسي أولاً. وطبيعي أن إرجاء بحث هذه التناقضات في حياة الشعب لا يعني أنها قد زالت، أو أنه لا سبيل لحلها إلى الأبد.. وإنما يكون الأمر أمر الوقت المناسب. وما من شعب في التاريخ صفى كل مشاكله في لحظة واحدة، وخلص من شرور حياته كلها في ضربة واحدة، بل أن بناء الحياة المرتجاة لشعب كشعبنا يتطلب جهوداً عظمى تفوق في ضخامتها وعمقها ما فعله التاريخ بشعبنا خلال مئات السنين، وما أكده من ظلم في التعامل بين أبناء الشعب أنفسهم في الأرزاق والاعتبارات. ولقد خلصنا من الإمامة كشكل للحكم في اليمن. فهل يكون طبيعياً أن نخلص على الفور من الروح الشريرة التي عاشت مع نظام الإمامة في اليمن؟
أيكون طبيعياً فور الخلاص من الإمام أن نخلص من الحكم الطائفي الذي بني العهد الامامي على أساسه فأصبحت غالبية الشعب مستذلة بقلة من بنيه؟
*
-وماذا نريد؟
لقد قامت حركة الأحرار اليمنيين مركزة أهدافها في ثلاثة مبادئ رئيسية تبنى الدولة على أساسها وهي:
الوحدة الوطنية.. السيادة الشعبية.. العدالة الاجتماعية.
وليس من سبيل غير هذا السبيل لإقرار السلام والاستقرار في اليمن وكفالة الأمن والطمأنينة بين الحاكمين والمحكومين.
*
إن ما يتطلبه هذا الشعب المضطهد التعيس ليس في الخلاص من مجموعة أفراد أو أسر بذاتها.. وإنما يتطلب الخلاص من العقلية والنفسية والأوضاع والنظم التي أشعرته أنه جزء من الحقل وليس سيد الحقل.
*
-وما لم تفهم الأمور على هذا النحو المبسط السليم فإن حلقة واحدة من حلقات التاريخ الآثم تكون قد انفصمت يوم 26 سبتمبر 1962 ليس غير.. وستظل الحلقات الباقية في حاجة لجهد جهيد وصبر شديد!
والشعب الذي أستطاع حتى الآن أن يحقق ما حقق من هزائم وخسائر في أعدائه لن يصده عن المضى إلى الأمام بريق خادع ولو خطف أبصار العالمين. وما لم نبدأ من حيث يجب البدء.. فإن المشكلة ستظل قائمة على أصلها دون تغيير إلا في الشكل الظاهرى. وسيظل البحث عن الحل قائما إلى أن يجيء الحل، ويطلع الفجر الصادق على الشعب.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.