كتابات خاصة

من الحياة (2)

فكرية شحرة

بعد أن انهى العمال نقل الأكياس توجهت إليه مبديا أعجابي بقراءته المتقنة محاولا أن لا تظهر دهشتي من كونه عامل بسيط قد يكون جاهلا بالقراءة والكتابة. بحثت عيوني عن مكان ظليل أستجير به من حرارة الشمس اللاذعة؛ إنه أحد أيام يوليو الحارة التي تستعطف بحرارتها السماء أن تمطر.

ظلّت نظراتي تنتقل بين العمال الثلاثة الذين ينقلون أكياس الدقيق من محل التاجر إلى سيارة النقل الصغيرة التي أتيت بها.

 ملامح العناء تكسو وجوههم؛ ومظاهر الفقر تشي بها ثيابهم.

 ابتسمت في داخلي فهؤلاء الرجال الذين يعانون الكد والتعب في جو كهذا أجرهم مضاعف _بإذن الله_ فأكياس الدقيق هذه ستذهب لعشرات الأسر الفقيرة التي اجتاحتها أوضاع البلد المزرية بعد اجتياح المليشيا الحوثية ونشوب حرب أخرجت للعراء آلاف من البطون الجائعة بلا معيل ومعاناة ترفع من رصيد الشقاء لهذا الشعب.

استقرت نظراتي على أحد العمال رجل ثيابه مهترئة ككل عمال هذا الوطن؛ كبيرا في السن وإن بدت عليه القوة والصلابة؛ كان يحرك شفتيه بلا توقف؛ كأنه يكلم نفسه في عالم منفصل عما حوله؛ يقف على ظهر سيارة النقل مرتباً وضع أكياس الدقيق بكل صبر وأناة.

لم يتوقف عن تحريك شفتيه رغم همته في العمل وتصاعد فضولي فقد بدا منظره مؤسف وهو يهذي بحديث خافت جعلني أشفق في أعماقي عليه وأحسب أن عقله ذهب تعباً وحسرة على حاله.

فمع الأحداث صار الكثير من العقلاء يحدثون أنفسهم كالمجانين أو أنهم جنوا فعلا بعد صدمات خساراتهم والحرب التي زرعت في كل بيت حزن قائم.

لكن عمله في نقل ورص الأكياس لا تدل على أن الرجل فاقد لعقله.

تركت الظل ووقفت قريبا منه محاولا استراق السمع وقد حولت نظري للجهة الأخرى.

وكانت دهشتي أشد من فضولي وأنا أسمع الرجل يردد آيات من القرآن الكريم لسورتي الأعراف والأنفال.

بعد أن انهى العمال نقل الأكياس توجهت إليه مبديا أعجابي بقراءته المتقنة محاولا أن لا تظهر دهشتي من كونه عامل بسيط قد يكون جاهلا بالقراءة والكتابة.

تجاوزت صدمتي هذه المرة كل ما سبق من دهشة وفضول بعد أن أخبرني العامل أنه دكتور في الجامعة لمادة القرآن الكريم وأراني هويته الشخصية لأعرف ذلك الاسم الذي لطالما قرأته في كتب تفسير القرآن الكريم.
قلت له مبهور الأنفاس:

_ولماذا كل هذا يا دكتور؟ كنت أشير لمظهره وعمله المضني وقد طفرت الدموع من عيوني حزناً وحسرة.

فقال لي بهدوء متحاشياً النظر إلى عيني ويربت على كتفي:

_ لدي أسرة كبيرة أعيلها؛ ثمانية من الأبناء والبنات يحتاجون إلى زاد وكساء وتعليم.. لدي والديّ ايضا مسنين يحتاجان إلى رعاية؛ وأنت تعرف إلى أي وضع وصلنا إليه وصدقني يا ولدي الكثير ممن أعرفهم هربوا خارج الوطن وأنا هنا أخوض جهاداً أكبر من أولئك الذين في المتارس وأكبر من أولئك الذين في الفنادق هذا هو جهادي الأكبر”.

ودعته وقد عجزت الكلمات عن شرح ذلك الشعور الذي انتابني؛ كان مزيجاً من القهر والحزن والغضب والفخر أيضاً.

المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.

*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى