غبار كثيف يكتسح البلاد، في كل سنة يؤكد كبار السن أن هذا الغبار هو “غوش البلح”، يقولون بأنه يأتي من تهامة ويتناقشون في ملزمة الفلكي الجوبي، وما ذكره وتنبأ به.
غبار كثيف يكتسح البلاد، في كل سنة يؤكد كبار السن أن هذا الغبار هو “غوش البلح”، يقولون بأنه يأتي من تهامة ويتناقشون في ملزمة الفلكي الجوبي، وما ذكره وتنبأ به.
الغبار هذه المرة أكثف من كل سنة، الشاب الذي سمح له القدر أن يعشق من شاقوص في ظل الحرب، يتهندم ويتشايك متخيلًا أن حبيبته سترى انعكاس جمالها على شعره الملتمع، لكنه يخرج إلى أمام البيت ويعود كما لو أنه خرج من قبره.
لنؤجل تحميم الأطفال حتى ينتهي الغبار، وطز بالتعاليم التي تحتم مضاعفة النظافة في مواسم انتشار الأوبئة..
الكوليرا تنتشر
الحوثي ينتشر
الموت ينتشر
والغبار يأتي، وفي هذه الأجواء يبدو الحديث عن الحب مثل نكتة في عزاء. والحق أننا، مع كثرة الموت، صرنا نستسيغ النكات ونضحك خلف الجنائز.
نحن نؤمن بالقضاء والقدر، وأكثر السنوات شحنت اليمنيين بالإيمان بشر القدر، سنوات مجد الحوثي والمخلوع، وعليه: فلو كانت تعليمات وزارة الصحة صادقة لكنا في عداد الموتى. القدامى الذين يقرأون ملزمة الجوبي يقولون ذلك، ويؤكدون: لو اجا الموت اجا، والجوبي لما يذكر الكوليرا.
لا تسرفوا بماء على أجساد مجلوة بالغبار. دعوه يرحل، ثم اغتسلوا.
خوفًا من توجسات الآخرين أو تعليقاتهم اللامزة، يترك المصابون باحتقان الجيوب الأنفية الكمامات، خوفًا من تهمة الدلال الحداثي لريفي درس في المدينة.
سنتان تتنشق البارود، التراب لا يضر. والفلكي لم يذكر شيئًا في الملزمة لكنهم يقولون:
“إذا جيت لقوم عور إعور عينك”.
ما يقطع الحديث عن الغبار وملزمة الجوبي إلا الحديث عن امرأة ضائعة، جاء ابنها يبحث عنها، تشبه الأم البلاد، وقد استنكر أحد الكبار وهو يعاتب ولد الأم الضائعة: كيف تضجرون أمكم، وتسمحوا لها بالضياع.
فرد الابن البار بأن أمه مصابة بحالة نفسية، وكان الرد الأقسى: لمَ لا تضعون قيدًا على أقدام أمكم؟
اُستُقْبِحَ الرد، ولم نعرف من يشبه البلاد، الأم أم الابن أم نحن؟ ولا أيهما أقسى: ضياع الأم، أم قيد على قدميها.
أن تجد صورة امرأة مكبلة فذلك ما يجعلك ترسف أنت في أغلال واقعك.
ماذا لو كانت المرأة أم؟
أصغينا للتفاصيل الشكلية للمرأة الأم، لا أظن أن الغبار سيجعلها تحتفظ بذات الشكل، الغبار كثيف لا يكاد البصر يبلغ خمسون مترًا في النهار.
الجو حار جدًا ونحن في مناطق معتدلة، والريح ساقت الغبار من تهامة الحارة جدًا، المحتلة جدًا من المليشيا.
يتمنى العاشق في المناطق المعتدلة، قالبًا من الثلج يحتضنه وينام.
ما الذي يتمناه التهامي؟
ملزمة الجوبي لم تقل شيئًا عن جلاء الريح، والكبار يقولون بأن الغبار لن يزيله إلا المطر، هذه هي مزية “غوش البلح”، وصاحبي عنتر يتصل من المدينة ليقول:
“من هذا الغبار قانا شاطلع بلح أنا”.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.