كانت الواحدة بعد منتصف الليل المؤدي بنا إلى عدن وإلى ثالث أيام عيد الفطر الفائت حين تأكد لسائق سيارة نقل الركاب القديمة أن جميع المسافرين على متن سيارته كانت الواحدة بعد منتصف الليل المؤدي بنا إلى عدن وإلى ثالث أيام عيد الفطر الفائت حين تأكد لسائق سيارة نقل الركاب القديمة أن جميع المسافرين على متن سيارته التي أقلتنا من عتق إلى عدن يحملون بطاقات إثبات هوياتهم الشخصية.. الشيء الذي يراه السائق ضروريا حيال ما وصفه بالإجراءات الأمنية المشددة التي تتبعها نقطة العلم الواقعة على مدخل العاصمة المؤقته عدن من جهة أبين..وما أدراك ما نقطة العلم؟ تتولى السلطة الرسمية لأمن عدن إدارة هذه النقطة بشكل خاص، وهذا جيد في ظل تعدد التكوينات الأمنية والعسكرية الموازية ، فيما تعكس المصدات الرملية المرتفعة والمتعددة على مدخل العلم من جهة أبين أهمية النقطة الأمنية هذه بالنسبة لأمن عدن ومكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود بين محافظات تنامت فيها أنشطة التهريب وحضور الجماعات الدينية والسياسية المتطرفة خلال السنوات العشر الأخيرة.نظريا هذا منطقي للغاية ..لكن القائمين على نقطة التفتيش هذه لا يتصرفون بمهنية أمنية كما ينبغي لأمن مدينة بالغة الأهمية بالنسبة لليمن والبلدان المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، فعلى الأقل كان هذا ما واجهناه حقا وصدقا خلال الأربع الساعات الثقيلة من الإحتجازوالجعث الذي خضعت له ضمن عشرات المسافرين الذين افترشت معهم مساحة إسفلتيه ساخنة وواسعة نسبيا يتوسطها “ترموس”كبير للماء الصالح للشرب ..هناك بالتحديد يحشر المسافرون على شكل طوابير صغيرة إنما متعددة، أي بواقع طابور لكل حافلة أو عربة نقل ويتم بالتالي فحص المسافرين وفرزهم وفقا لبيانات هوياتهم الشخصية!!تفضي عملية فحص بيانات الهويات الشخصية هذه إلى فرز فئة محددة من المسافرين الذين سيخضعون مع أمتعتهم ومقتنياتهم للتفتيش الدقيق والصارم كما لو كانت الجريمة ملازمة لهم دون غيرهم من الواصلين إلى عدن أو العابرين منها .في الحقيقة لم يتم فرزي ضمن الفئة المهانة والمذلة لعابري السبيل هذه، ذلك أنني من مواليد مديرية المقاطرة التابعة لمحافظة لحج، وهذا مكتوب ضمن بيانات الهوية الشخصية التي أدفسها في جيبي وأحملها معي أينما ذهبت..لكن رفاقي الذين تكبدنا معا عناء السفر وتنقلاته الصعبة من مأرب الى عدن مرورا بشبوة وأبين تم حشرهم في طابور المذلين المجعوثين هذا لمجرد أن بيانات هوياتهم الشخصية تشير إلى أنهم من أبناء محافظة تعزومحافظات أخرى شمالية .
بالنسبة لي فقد كان من اللؤم والأنانية أن أواصل وقوفي في الطابور الذي سياتبع طريقه الى عدن لمجرد أنه طابور تألف من الجنوبين وفقا لنتائج فحص الهويات هذه،وما من معيار آخر غير الفرز الهوياتي القائم على اساس شطري يحاكم المسافرين الشمالين في نقطة العلم وفقا له، كما لو أنهم مجرمين فعليين أو محتملين، فيما نحن عابري سبيل لا أقل ولا أكثر ..كان فاحص الهويات قد أوقفني ضمن الطابور الجنوبي للمحظوظين حين سألته : المقاطرة شمال أم جنوب؟ ..أجابني مستفسرا : أنت فين تشتي؟ ..أجبته: أشتي التربة .. معناته الشمال!! ..وكان هدفي من هذا السؤال دفعه إلى إخراجي من الطابور الجنوبي و الحاقي بالطابور الشمالي الذي يقف فيه رفاق سفري الطويل المضني من مأرب وحتى عدن وهو الطابورالذي جعثوه وبهذلوه ضمن مجموعات شمالية أخري تم رطعها هناك من منتصف الليل وحتى مطلع الفجر.يفرغ المفتشون جيوبك وملابسك التي ترتديها من أي شيء يمكنك أن تحفظه فيها، وأظن هذا مقبول لدواع ما أمنية .. كما ويتم إفراغ حقائبك وأكياس أمتعتك من كل ما هو مدفوس فيها من ملابس ومقتنيات وأشياء وهذا مقبول أيضا..على أن صرامة هذه الإجراءات تستثني المسافرين الجنوبيين في الغالب وهم الذين سافرت وإياهم من مأرب ثم من عتق على متن السيارة ذاتها وأكلتم معا على مائدة طعام واحدة وأستمتعتم بسماع الأغاني ذاتها من إذاعة “الغد المشرق”اللي هواها يماني.. وأستنشقتم الهواء والغبار ذاته ودخنتم سجائركم جنبا إلى جنب..وجمعيكم في الأصل مسافرين عزل إلا من نيران أشواقكم لعناق أهاليكم في القرى والمدن التي ستصلون اليها مهما كلف الأمر ..في حقيبيتي كما في حقائب الزميلين رأفت وأكرم عثر المفتشون على ما يشير إلى الرومانسية وإرتباطنا الوثيق بالحب والعلاقات العاطفية كالعطورات والأحذية والملابس والهدايا النسائية، وفي حقيبة أكرم تحديدا عثروا على إسوارة ذهبية وساعة نسائية ودبلة مغلفة كان قد شراها لحبيبته التي عقد عليها قرانه في إجازة عيد الفطر الفائت.كان أكرم قد أنهى إتصاله الهاتفي بشقيقته التي تعيش مع زوجها الجنوبي في عدن وتنتظر وصوله في تلك اللحظة حين سأله المفتش بمن تتصل؟ ..حاول المسافر الودود إستعطاف هذا المفتش قائلا: أختى وصهري ينتظرون وصولي في عدن ..رد عليه صاحب النقطة : تشوف نجوم السماء؟.. ولن أنس كيف هز أكرم راسه ليقول نعم..اشوف.. حين صعقه المفتش بقوله: نجوم السماء أقرب لك من عدن..رأفت وأكرم كلاهما من تعز وما من جريمة يسعيان إلى إرتكابها في عدن غير أخذهما قسط من الراحة في ضيافة أقاربهم هناك ليواصلان بعدها سفرهم الى أهلهم في صنعاء، وكان الرفيقان قد تجنبا السفر إلى صنعاء عن طريق البيضاء ذمار تحاشيا للوقوع في قبضة النقطة المليشاوية التي يديرها “أبو هاشم”وأتباعه في رداع، وهي النقطة الحوثية التي حازت شهرتها هي الأخرى من وراء جعثها وإذلالها وإبتزازها للمسافرين الأتين من مأرب والذين يشك أبو هاشم بإنتمائهم إلى تكوينات الجيش الوطني والمقاومة الشعبية ..شأن أكرم ورأفت يسعى ذلك الشباب الذماري البريء والمرطوع معنا في النقطة للوصول الى عدن ليتابع سفره إلى ذمار متجنبا الوقوع في قبضة أبو هاشم في رداع.. وليته لم يفعل!!كان هذا الذماري قد حشرنفسه تحت زنته البيضاء ولف خصره بجنبيته قبل مغادرته مأرب متوجها الى ذمار عن طريق عدن، ولم يكن في حسبان هذا الشاب ذو البشرة البيضاء أن تحل ملابسه ولكنته الذمارية الصرفة لعنة عليه في نقطة العلم الشريرة هذه ..كان يبدو “زنجبيل بغباره”حين تعاقب المحققون الضليعة على تلقينه دروسا في العزة والكرامة وكيف عليه أن يحرر ذمار؟ في سياق ما يشبه المحاكمة العلنية قال له أحدهم : شفت هذه المكان اللي خلفك .. هذا كله جثث أصحابكم .. وما أن قفى هذا المحقق حتى وقف للذماري مفتش آخر باشره بقوله: أنتم عبيد على محسن الأحمر والمقدشي ..يجدر بتلك الإجراءات أن تكون أمنية المعايير والأداء والمفردات أو هكذا يجب لكن المحقيقين والمفتشين الضليعة يتحدثون معك بزهو من حرروا الجنوب وعدن وكأنك في تلك اللحظة تجلس معهم في ساحة العروض بعدن لأداء مليونية استقلال الجنوب.أظن هذا من حقهم ، لولا أنهم في المقابل يحتقرون المسافرين الشماليين المتعبين وعابري السبيل عديمي الحيلة ويحاكمون مناطقهم التي سيافرون اليها كما يحاكمون المناطق التي يسافرون منها ولا سيما مأرب التي يتحدثون عن الآتين منها وكأنهم خرفان وآفدة من المزارع الخاصة بالمقدشي وعلى محسن الأحمر .. وهذا لا يتناسب مع شرف من حرروا الجنوب ويسعون الى إستقلاله كدولة.نحن هنا عابري سبيل بسطاء ومكروبين حتى وإن كان العديد منا من منتسبي الجيش الوطني الموالي للشرعية في مأرب فليس منا من يختار قادة الجيش المغضوب عليهم في الجنوب كما لم نختار مناطقنا التي ولدنا فيها في الشمال، وقد فرضت علينا الحرب طويلة الأمد خيارات صعبة ومحدودة للعيش الكريم بقدر ما فرضت علينا مسارات السفر الطويلة التي لم نسلكها من قبل. بأدب جم تحدث ذلك الذماري مع مهينيه قائلا “انتم متحضرين ولهذا حررتم أرضكم وتحررتم إحنا متخلفين ولهذا نعاني من العبودية للسيد كما عانا أجدادنا من العبودية للسيد الأول”إقرار نبيل يحاول من خلاله هذا الشاب إشباع غرور المحققيين الذي تعاقبوا على إذلاله وإهانته بقدر ما يحاول تخفيف حدة الإهانات التي توالت عليه .. لكنهم لم يكفوا ..سأله أحدهم : أنت مع الشرعية والا مع التحالف؟ .. اجابه : مع الشرعية ..فتابع ذلك المحقق تهجمه اللفظي عليه وعلى مرطوعين آخرين بما معناه : إحنا مع التحالف ومع المجلس الإنتقالي لإستعادة دولة الجنوب بقيادة عيدروس الزبيدي ..أنتم في مأرب وفي الشمال اشبعوا بحقكم الشرعية وحرروا أرضكم “. الجنبية الخاصة بهذا الذماري البسيط والمكروب تم مصادرتها كسلاح أبيض كما لوكان يحاول الدخول الى سويسرا.الشاب البعداني الذي سافر بمعيتنا من شبوة كان يحمل ساطورا بحكم عمله في مسلخ يملكه في عتق ، هذا الساطور تم مصادرته كسلاح أبيض مع تعرض هذا البعداني للإهانات اللفظية هو الآخر ..رفيقنا الصومالي خلسوا ملابسه العلوية والسفلية وابقوه بالشرت وذلك بحثا عن مخدرات يشكون بأنه أخفاها تحت جلده ..وأما ذلك المهمش العجوز ذو السمرة الداكنة فقد عاقبوه بالرفس، وذلك لأنه أدعى بأنه من محافظة لحج الجنوبية فيما أظهرت بيانات بطاقته الشخصية بأنه من محافظة ريمة الشمالية..وأتذكر أنهم صادروا لنحو نصف ساعة نقود هذا العجوز كنوع من العقاب وعندما أعادوها اليه كاملة غير منقوصة التفتوا الينا وقالوا ..حد منكم بيقول إحنا نهبنا فلوسه بنكسر له لقفه ..ومع أنك شمالي تستهدفك تلك الإجراءات دون سائر البشر، الإ أن المفتشين يعيدون اليك فلوسك ومقتنياتك الشخصية في نقطة العلم العنصرية هذه ، كما ويقومون بإعادة ترتيب حقائبك بأنفسهم ويثنون على أنفسهم في سياق تأكيدهم على أنهم أكثر لطفا ونزاهة من النقاط الحوثية المماثلة في الشمال..والحقيقة أن أولئك المفتشون لا يخضعون هاتفك الجوال للتفتيش ولا يصادرون نقودك إلى ثقوبهم السوداء كما تفعل عدد من النقاط الحوثية على طريق سفرك من مأرب إلى صنعاء مثلا ..ومن هذه الزواية المتعلقة بالنزاهة وحفظ مقتنيات المسافرين وأمتعتهم يجدر بنا الإشادة بالعناصر الأمنية في نقطة العلم والذين عكست أحاديثهم وتحقيقاتهم مع المسافرين ومعي شخصيا بأنهم من أبناء محافظة الضالع ومن الرجال الخلص لعيدروس الزبيدي وشلال شائع والمجلس الإنتقالي الجنوبي ..في النهاية لم يسمحوا لنا بالدخول الى عدن عبر نقطة العلم هذه، إذ رفسونا على الحافلة التي سلكت بنا طريقا اجباريا الى الفيوش والعند، وكان على المسافرين الى تعز أن يسلكوا طريق الضالع إب قبل أن يستغرق سفرهم من الحوبان ثمان ساعات إضافية للوصول الى مدينة التربة المطلة على لحج من جهة الشمال ..كان سفري الطبيعي من عدن الى المقاطرة يستغرق أقل من ساعة وصولا إلى”معبق”أول قرية في المقاطرة من جهة الجنوب وساعة إضافية للوصول الى قريتي”الهويشة” المجاورة لقلعة المقاطرة والتي من خلالها استطيع بعيني المجردة مشاهدة اضواء البريقة وسفن التواهي في عدن..كان لدى العديد من المسافرين على متن الحالفة الإرغامية التي ستقلنا الى إب عن طريق الضالع أقارب لهم في عدن وأما أنا لو عديتم أهلي في عدن “بايقع الفين واحد”..
ما أن وصلت العند حتى كانت الليدة نادية سلام “زوجتي”قد طلبت من اهلها في عدن إستقبالي أمام حلويات علي سعيد بالعند وهكذا فعل أقارب رأفت وأكرم..
وهكذا وصلنا الى حيث أردنا وعانقنا أهلنا ومن نحب ..ولم تكن محبوبتنا عدن أبعد لنا من نجوم السماء، بل كانت وستظل أقرب الينا من حبل الوريد .
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.