يُطلَب منّي، أحياناً، الحديث عن نفسي، في محفلٍ عام، غير أنّ الحرَج في مثل هذه المناسبات يجعلني أحجِمُ وأنصرِفُ إلى نفسي، أحدّثُها كلّما خلوتُ بها في محرابي، وزاوية مشغلي. فهذا أنسبُ لي وأسهل وأكثر جدوى وأغزر فكراً.. وإلا فالحديث وجهاً لوجه مع الآخرين صعب، بل في غاية الصعوبة، على نفسٍ اعتادت التكتّم على هويتها ونشأتها.. يُطلَب منّي، أحياناً، الحديث عن نفسي، في محفلٍ عام، غير أنّ الحرَج في مثل هذه المناسبات يجعلني أحجِمُ وأنصرِفُ إلى نفسي، أحدّثُها كلّما خلوتُ بها في محرابي، وزاوية مشغلي. فهذا أنسبُ لي وأسهل وأكثر جدوى وأغزر فكراً.. وإلا فالحديث وجهاً لوجه مع الآخرين صعب، بل في غاية الصعوبة، على نفسٍ اعتادت التكتّم على هويتها ونشأتها..
كتبتُ، مع نفسي، سيرةً لحياتي، لم تتعدَّ ألفَ كلمة، عنونتُها “الرؤيا الخضراء” (يتضمّنها هذا الكتاب) ولطالما تصوّرتُ حياتي وحياةَ نصوصي مقاطعَ من رؤيا مشتركة مع سكّان بلادي، عمّالها وفلّاحيها وكَسَبَتِها ومثقّفيها، مزارعها ومصانعها وأسواقها ومدارسها، وكانت هذه المقاطع تنبثق في صيغة رؤيا، لا أمسِكُ إلا بجزءٍ منها.. فمَنْ ذا يستطيع أن يُلِمَّ بسعة هذه البلاد، وحياة مواطنيها الموزَّعين على مساحة آلاف الكيلومترات، وهم ينغمرون بأعمالهم ومشاغلهم وحروبهم ليل نهار؟
لستُ إذن إلا جزءاً من هذه الرؤيا، مَقطعاً منها، وُلِدَ ونشأ وتعلّمَ وكتبَ وقرأَ إلى جانب النهر والنخيل، ما دعاني إلى تسميتها بالرؤيا الخضراء.
كم مرَّ على انبثاق هذه الرؤيا، الحرفِ الأول، النصِّ الأوّل المولودِ من النهر والنّخل: خمسون عاماً، سبعون، ألفُ عام، دهرٌ متغلغِل مثل جذرٍ في تربة البلاد، بعيداً وعميقاً في ضميره ووجدانه، حربِه وسلامه، عذابِه وشموخِه؟
لا أستطيع تحديد البدايات، كما النهايات، إلا بشروق شمسٍ وانسحابها وراء “مجهولية” السابق واللاحق من صفوف النخيل، التي لم يتبقَّ منها إلا مشهد بعيد، غرَبَت عنه أشعّةُ الشمس.
هكذا ينبغي لكاتبٍ من سيرة حياته، كلّما حان وقت الحديث عنها.. يتصوّرها مَقطعاً رؤيوياً غير قابل للاسترجاع والاسترسال إلى أمام وخلف، إلى شرق وغرب، أو إلى أيّ بُعدٍ مكانيّ أو زمانيّ.. أن يتجاهل نفسَه إزاء معرفة الآخر. وفي التجاهل رحمةٌ ونعمة، وفي المعرفة شقاءٌ ونقمة.
أمّا حين يكتفي كاتبٌ بسرد حياته على الخاطر والسليقة، أو الإعلان والإشهار، فالأغلبُ أنّه يضع نفسَه موضعَ التّهمة، تهمةِ المعرفة إزاء مجهولية الآخر، وتمثيل المجموع إزاء فرديةٍ زائلة لا قيمة لها. ومَنْ يملك هذا الحقّ في المعرفة، حين يكون المجموع مجهولاً غير معرَّفٍ لديه؟ والمعادلةُ الصحيحة، أن يكون الكاتب مجهولاً إزاء معلومية المجموع. أما سؤاله الجوهري، فيكون: “مَنْ أكونُ حقاً باعتقادكم؟” حسب عنوان رواية لروجيه غارودي.
هل يكفي أن أصرّح بأنّي كاتب بدأ الكتابة قبل خمسين عاماً، وأنّي نشرتُ عدداً من الكُتُب، وما أزال أعيش وأدورُ في قُطر دائرةٍ، لا تتعدّى بضعة كيلومترات، داخل مركز المدينة التي وُلِدتُ فيها، وأنّ معيشتي في هذه الدائرة يعزلني عن جموع بلادي المجهولة؟
ألا يكون عيباً وخزياً أن أكون معروفاً لنفسي، مجهولاً للآخرين من سكّان بلادي الذين ينبغي لي أن أعرفهم أكثر من معرفتي نفسي؟
كثيراً ما يجلس إلى جانبي شخصٌ لا أعرفه، في سيّارة أو قطار أو طائرة، وخلال مسافة السّفر ومدّة الرحلة، يجري حديثٌ حذِر أو حميم بيننا.. يعرّفني باسمه، وأعرّفه باسمي، ثمّ تحدث المفاجأة. هو يعرفني جيداً، وأنا لا أعرفه إطلاقاً.. هو مواطنٌ مجهول لي كُلّيّاً، وأنا كاتبٌ معروف لديه تماماً..
أليسَ هذا عذاباً مخزياً: أن تكون معروفاً عند غيركَ، ولا يكون غيركَ معروفاً لديكَ؟
هنا المشكلة باعتقادي.. فما ينبغي لنا من معلومية، يجب أن يملكها الآخر الذي لا نعرفه.. ينبغي لنا، نحن الكتّاب، أن نكون مجهولين للآخر، بقدر ما يكون الآخر معروفاً لنا..
أصبح الأمر متعادلاً، الكلام عن النفس، والكلام عن الآخر، الاعتراف بالمعلومية الممنوحة من الآخر المجهول.. الآخر الذي ينبغي له أن يكون مذكوراً في مدرج سيرة أيّ كاتبٍ، يخصُّ نفسه بمقدار من المعرفة والعنونة.
إذا ما تنازلَت النفسُ عن سلطتها لغيرها، وبادلَت الآخرَ الحديثَ باعتباره نَفْساً/ ذاتاً معرَّفة، كما لو كانا مسافرَيْنِ في قطار واحد، يكتشفان بعضَهما وما حولهما، فإذنْ أصبحت النَّفْسُ/ الذاتُ المتكلّمة معروفةً وجليّة عند الجموع المجهولة؛ أما إذا عُدّ الحديثُ عابراً ومفروضاً، فقد أخلَّت النَّفْسُ/ الذاتُ بالمعادلة التي اكتشفتْها، وعادتْ إلى معلوميّتها السُّلطويّة، وتمسَّكت بها إزاء مجهولية الآخر الذي ينبغي لها أن تحتلَّ موقعَه..
بهذا الهاجس الأُخروي/ اغترابِ النفس عن ذاتها، والتمحوّرِ حول حوادث شتّى، صَنعَتْ سلطتَها، وقدّمتْها ذاتاً فاعلة في نصوصها، أطمحُ أن تُقرأ هذه الإنشاءات التي نشرتُها في مناسبات عدّة، من غير أن أحسب لها حسابَ السيرة الذاتية المكتفية بنفسها عن نفسها، وداخلها عن خارجها. فالهدف الأساس من نشرها إباحةُ الشراكة المفترَضة بينها وبين الآلاف من النفوس/ الذوات التي تشبهُها في حينها وما بعد حينها..
– من كتاب: “ما يمسك وما لا يمسك – إنشاءات سيرية”،