كانت عدن هي الميناء العالمي المزدهر إبان الإستعمار البريطاني، وبالتالي كان الخويل عبده مكرد، مديراً مالياً مثقفاً لواحدة من شركات الملاحة الدولية التي انتعشت ضمن حركة الميناء المفتوح على حركة التجارة الدولية..
كانت عدن هي الميناء العالمي المزدهر إبان الإستعمار البريطاني، وبالتالي كان الخويل عبده مكرد، مديراً مالياً مثقفاً لواحدة من شركات الملاحة الدولية التي انتعشت ضمن حركة الميناء المفتوح على حركة التجارة الدولية..
و من هذا المنطلق، كانت رياح التحولات والصراعات والاستقطابات العالمية تنتج مصطلحات ثقافية وسياسية جديدة.. و”أمام هذا المنعطف التاريخي الخطير” كان عبده مكرد من أوائل المتلقين والمستخدمين لتلك المصطلحات في خطاباتهم الاستعراضية أمام الحمالين والموظفين الصغار في شركته الملاحية، كما في الميناء..
“بيد أن” هذا المدير الذي أخذ يحتقن معرفياً، يوماً بعد يوم، ظل بحاجة إلى جمهور نوعي صبور يرتص أمامه على شكل طابور يتلقى خطاباته المفعمة بمصطلحاته الثقيلة بلا تململ وبلا تذمر.
فكان عليه أن يستغل موعد دفعه لرواتب العاملين في شركته ليشكل الطابور العمالي الذي سيصغي إليه تحت وطأة الاستعجال واللهفة لاستلام الراتب..
في نهاية كل شهر يتماسك الطابور مبدياً إصغائه المصطنع.. وكما الآخرين “يكون لزاماً” على سعيد عبده “طباخ الشركة” أن يهز “رأسه موافقاً ومؤيداً لخطابات المدير.. تلك المرصعة بكلمات جديدة، سعيد نفسه لم يكن قادراً “على مواكبتها” كطباخ ماهر.
وهذا ما كان يحدث..
يكتمل طابور الراتب فيما يكون عبده مكرد قد وقف أمامه بحماس مستهلاً خطابه بمصطلحات ثورية استمدها من خطابات العمال الفلاحين في روسيا البيضاء.
يواصل الربع الساعة الأولى خطيباً ماركسياً على الزرة قبل أن يتلبسه الزعيم جمال عبد الناصر بقوله: “ومن هذا المنطلق”، وهي الفقرة التي يمد بعدها خطابه لمدة نصف ساعة قبل أن يأتي على قول: “وبالتالي”، التي تفصلها ربع ساعة عن “المنعطف التاريخي الخطير”..
بعد المنعطف الخطير بنصف ساعة من الخطاب الاستعلائي الممجوج هذا، يكون عبده مكرد قد وصل إلى: “ولا سيما”، وهو المصطلح الذي بعده بخمس دقائق يكون قد أكمل خطابه.. وعندها ينتنفس سعيد عبده الصعداء ايذاناً ببدء استلامه لراتبه!!
يتكرر هذا مع كل راتب.. بل ويمط إبن مكرد خطابه لربع إلى نصف ساعة كلما ادخل مصطلحاً جديداً يشكل حاملاً إضافياً لخطابه المؤدلج نوع ما.. في حين ظلت “ولاسيما” في بقعتها بلا تزحزح.. أي قبل انهاء مكرد لخطابه الشهري الطويل بخمس دقائق.. وهناك طبعاً خطابات اسبوعية ولكن الإستماع إليها يكون طوعياً في الغالب ومرتبط بدفع مكرد للعلاوات والبقشيش للمخلصين من مستمعيه أو الخرص منهم..
جاء اليوم الذي ماتت فيه “زعفران” أم طباخ الشركة سعيد عبده الذي وجد نفسه مضطراً للسفر إلى “بني حماد” ليوسد أمه الثرى ويستقبل أسراب معزيه.. وكان مصابه الجلل هذا قد جاء متزامناً مع موعد استلامه لراتبه “وبالتالي” موعد سماعه لخطاب مديره المفوه عبده مكرد..
كعادته وقف سعيد بداية طابور الراتب وذلك وجهاً لوجه مع مديره المتحمس والذي “من المؤكد” أنه سيمط خطابه لثلاث ساعات هذه المرة.. الأمر الذي سيقطع على “سعيد” سفره الضروري للمشاركة في تشييع جثمان امه الزعفران.
ما أن تنحنح عبده مكرد مستهلاً خطابه حتى جثى سعيد عبده على ركبتيه راجياً “القطبة” ثم وبحركة لا إرادية كان عليه أن يجر عبده مكرد من سرواله المكوي بعناية قائلاً له: أنا فداااااالك يا مدير.. هذه المرة إبدأ لنا من عند “ولا سيما”..
من هذا المنطلق.. أنا فدااااااااااالك يا شرعية.. ولا سيما الرواتب.. أليست اليمن في منعطف تاريخي خطير؟!
وبالتالي الكفن سهل.. با نكفنها بمخرجات الحوار الوطني.. لكن القبر يشاله رواتب.. لا سيما ونحن عازمون على السفر إلى خالتنا الغنية: الصومال..
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.