الكون الذي نعيشه فيه عالمان، عالم الغيب وعالم الشهادة، وكان الإسلام بشعبه الثلاث (الإيمان والشعائر والشريعة) شاملا لكلا العالمين، جاءت تلك الشعب الثلاث لتسد كل واحدة منها عالما، فكان الإيمان متعلقا بعالم الغيب، وكانت الشريعة متعلقة بعالم الشهادة.
لما كان الكون الذي نعيشه فيه عالمان، عالم الغيب وعالم الشهادة، وكان الإسلام بشعبه الثلاث (الإيمان والشعائر والشريعة) شاملا لكلا العالمين، جاءت تلك الشعب الثلاث لتسد كل واحدة منها عالما، فكان الإيمان متعلقا بعالم الغيب، وكانت الشريعة متعلقة بعالم الشهادة، أما الشعائر التعبدية فإنها تربط بين عالمي الغيب وعالم الشهادة، ففيها جانب غيبي وفيها جانب مشاهد، ولذا فإن أداءها يحقق للمؤمن الانسجام التام في حياته بين العالمين، إذ لا يتحقق ذلك الانسجام إلا بالتصور الواضح لعالم الغيب وهو ما حققته آيات الإيمان، وكذلك عمارة الأرض بالحق والخير والجمال وهو ما حثت عليه آيات الشريعة، وكذلك تحقيق الانسجام بين عالمي الغيب والشهادة وهو ما تهدف إليه الشعائر التعبدية، إذ أن هناك علاقة تأثر وتأثير بين عالم الغيب وعالم الشهادة.
ولما كانت الصلاة هي أهم ركن في الشعائر التعبدية باعتبارها عملاً يمارسه المؤمن كل يوم، بعكس الشعيرة السنوية (الصيام) والعمرية (الحج)، فإنها بذلك تكون أكثر شعيرة تحقق للمؤمن ذلك الانسجام الذي يحقق له السعادة، فيظهر أثر تلك الشعيرة في عالمي الغيب والشهادة، أما أثرها في عالم الغيب فزيادة إيمان بالله واليوم والآخر، وسكينة في النفس، وطمأنينة في القلب، وأما أثرها في عالم الشهادة فتزكية للنفس وتطهير لها فتثمر أخلاقا حسنة في سلوكه مع كل ما حوله.
إذن فللصلاة مقصدان، مقصد تحققه في عالم الغيب وهو ما أشارت له الآية {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}”[ طه:14] ، واللام في لذكري للتعليل، أي أقم الصلاة لأجل أن تذكرني، لأن الصلاة تذكر العبد بخالقه، إذ يستشعر أنه واقف بين يدي الله لمناجاته، وذكر الله هنا ليس الذكر باللسان مما انتشر بين الناس فصاروا يعددون التسبيحات والتكبيرات والتهليلات فاختزلوا بذلك المعنى الأساس للذكر، وصاروا يعدون ذلك النوع من الذكر أهم من الصلاة، عند حديثهم عن فضائل الذكر، وإنما الذكر هنا هو ذكر العقل، وهو معنى أهم وأكبر وأشمل، فالذكر عكس الغفلة، فإذا لم تذكر الله فإنك غافل، وإذا غفلت فربما تفسد وتطغى وترتكب الشر وتنحو إلى الباطل، كل ذلك لأن عقلك وقلبك لا يذكر الله، وبالتالي فلن تخافه ولن ترجوه، ولن تتذكر يوم الجزاء في الآخرة، ولو كانت ذاكرا لما عملت ذلك كله ولزدت من الخير واتجهت إلى الحق، والصلاة تحقق ذلك الذكر في لحظات مقسمة على اليوم هي أوقات الصلاة الخمسة، بحيث يتذكر الإنسان ولا ينسى، فإذا جاءت الصلاة ذكرته بالله. ولما للصلاة من صلة كبيرة بين العبد وربه، فقد ارتبطت بمعنى الذكر حتى صارت مرادفة له، فحث الله عباده المؤمنين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9].
وأما المقصد الثاني للصلاة والذي يتحقق في عالم الشهادة فتشير له الآية التي تقول: “وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ” [العنكبوت: 45]، فموقع {إن} هنا موقع فاء التعليل، فأخبر أن الصلاة تنهى المصلي عن الفحشاء والمنكر، فالصلاة بمجموعها كالواعظ الناهي عن الفحشاء والمنكر ، والآية تقول “تنهى” ولم تقل تَصُدّ وتحول ونحو ذلك مما يقتضي صرف المصلي عن الفحشاء والمنكر، لأننا ربما وجدنا من لم يتحقق ذلك عنده رغم أنه يصلي، والسبب أن تلك الصلاة لا يحضرها ذكر الله، ولا يغشاها الخشوع والرهب، ولا تظللها سكينة النفس، وطمأنينة القلب فكانت بذلك قليلة الثمر، وضئيلة الأثر، أما حين يحضرها ذلك كله فإنها تزكي نفسه وتثمر أخلاقا حسنة تظهر في سلوكه في عالم الشهادة.
وأما قوله تعالى ” وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ” فهي تذكير للمعنى الأساس في الصلاة، وهو ذكر الله، وأنه أكبر مما نهاك عن الفحشاء والمنكر، باعتبار ذلك النهي هو إحدى ثمار ذلك الذكر.
يقول ابن كثير: ” يعني أن الصلاة تشمل على شيئين: على ترك الفواحش والمنكرات، أي أن مواظبتها تحمل على ترك ذلك.. وتشتمل الصلاة أيضا على ذكر الله تعالى، وهو المطلوب الأكبر، ولهذا قال تعالى (ولذكر الله أكبر) أي أعظم من الأول” (مختصر ابن كثير للصابوني ج2 ص38). ويقول ابن تيمية: “فإن الصلاة فيها دفع للمكروه وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل المحبوب وهو ذكر الله، وحصول هذا المحبوب اكبر من دفع المكروه، فإن ذكر الله عبادة لله وعبادة القلب لله مقصودة لذاتها، وأما اندفاع الشر عنه فهو مقصود لغيره على سبيل التبع” (مجموع الفتاوى ج10/ص188).
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.