حين يفقد المرء معشوقته، أو يُحرَم منها، لا يعود له من ملاذ سوى البكاء على أطلالها.. فدعوني أبكي على أطلال معشوقتي التي كانت أجمل نساء الأرض. حين يفقد المرء معشوقته، أو يُحرَم منها، لا يعود له من ملاذ سوى البكاء على أطلالها.. فدعوني أبكي على أطلال معشوقتي التي كانت أجمل نساء الأرض:
زارتني ليلة أمس في الحلم، بصورتها القديمة التي لم تزرني بها من قبل.. جاءتني من أفق بعيد، كأنَّها خرجت من أخاديد القبور في متاهات العصور.. جاءت لتخبرني ما كانت عليه، وما آلت إليه.
إنها مدينتي.. مسقط رأسي، ومنبع احساسي، ومجمع حواسي.
المدينة المفتوحة على كل العواطف والمشاعر والأحاسيس والخواطر..
إنها تفتح مفاصل قدرتك على التأمل والابداع والتجلّي، والحب أيضاً..
وإذا رغبتَ في القراءة، فلا أروع من كتاب عدن..
وإذا رغبتَ في الكتابة، فلا أوسع من قاموسها..
وإذا رغبتَ في الكلام، فالصمت أنبل في حضرتها.
…
عدن لا تسألك: من أنت؟ .. أو: من أين أنت؟
إنها تسألك فقط: كيف أنت؟!
فإذا كنتَ حزيناً، تُدغدغك حتى تتفجّر فرحاً وبهجة.. وإذا كنت جائعاً أو ظامئاً، فانها تُطعمك من ثدييها وتُسقيك من شفتيها.. أما إذا كنت ترتجف برداً، فإنها تضعك بين أهدابها حيث منبع الدفء كله، وتنام عليك.
وأنت في عدن لست غريباً البتة.. لست يتيماً على الاطلاق.. ولست زائراً عابراً.. لأنك إذا غادرتَها، تظل رائحتك على جسدها طوال العمر، وتظل رائحتها في ذاكرتك عصيَّة على النسيان.. لأن عدن عاشقة من الطراز الأول، ومعشوقة من المقام الرفيع.. بل الحق أن عدن هي العشق ذاته.
…
في هذه العدن لن تشعر بالزحمة أبداً، برغم أنها صغيرة المساحة، طرقاتها ضيقة، شوارعها محدودة، ومنشآتها قليلة.. لكن السبب هو أن شواطئها تمتصُّ أية ملايين وكأنَّها عشرات.. وبحرها يحتضن كل مسامات الكون وكل تضاريس البشر، بقدرة سحرية تبعث على الدهشة، بل تُنبىء بالاعجاز.
وفي عدن تستطيع أن ترمي بجواز سفرك وبطاقتك الشخصية أو الحزبية ولهجتك ومُهجتك في قاع البحر.. لأنك حينها -وبكل بساطة- تستطيع أن تحصل على هوية جديدة اسمها عدن.. وأن تتحدث بلغة جديدة لا تلهج بالكلمات، إنما بالنبضات.
…
إن المدن الساحلية هي أكثر المدن قدرة على الاندماج في سيرورة وصيرورة الحياة على الأرض.. فهي منفتحة على حركة البواخر وتنقُّلات البشر، وتلاقُح واختلاط الثقافات واللغات واللهجات والحضارات والديانات والسُّلالات.. ولهذا يكون هذا الصنف من المدن عصيَّاً على الزوال في التاريخ والجغرافيا والسياسة، وفي الاجتماع والثقافة والحضارة، على حدٍّ سواء.
فهل يمكن لأية قوة على وجه الأرض أن تُزيل اليوم هذه العدن من الذاكرة والخاطرة والخارطة؟
ومن هذا الصنف -بل من أحسن ما فيه- تكون عدن، عروس البحار والمحار والبهار.
فهل يمكن أن يتراءى للعقل أن يذوب ملح البحر في رمل البداوة، وتغيب شمس الظهيرة في خيمة العشيرة؟
…
هي عدن.. هي “باندورا ” أول امرأة وُجِدت في تاريخ البشرية، بحسب الأسطورة الأغريقية..
وقد وجدتها تستحمُّ في شاطىء جولدمور، وتُمشّط شعرها المُبْتَلّ على ضفّة الغدير، وترتدي ثوبها الأزرق في سيرها الهوينى على ساحل خورمكسر.. فيا قلبي لا تتكسَّر!
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.