كتابات خاصة

الخطاب الديني في التسعينات

عبدالله القيسي

بينما كنت أتصفح أحد الصفحات التي تهتم بالتاريخ اليمني على مواقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، وقع بين يدي مقطع فيديو قديم لفنان يمني كان يشغل حيزا لا بأس به في التلفزيون اليمني في فترة الثمانينات، ولكنه اختفى من المشهد بشكل لافت، فلم يعد يظهر على التلفزيون اليمني في العقدين الأخيرين، ولم أعد أسمع له ذكرا على ألسنة الناس !! سألت عنه فقالوا توفي في التسعينات!

بينما كنت أتصفح أحد الصفحات التي تهتم
بالتاريخ اليمني على مواقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، وقع بين يدي مقطع فيديو قديم
لفنان يمني كان يشغل حيزا لا بأس به في التلفزيون اليمني في فترة الثمانينات، ولكنه
اختفى من المشهد بشكل لافت، فلم يعد يظهر على التلفزيون اليمني في العقدين الأخيرين،
ولم أعد أسمع له ذكرا على ألسنة الناس !! سألت عنه فقالوا توفي في التسعينات!
الفنان علي الصعفاني (الحرازي) هو من فناني
الجيل الثاني في اليمن بعد قيام ثورة سبتمبر 1962م، كان يوصف بأنه أقرب الفنانين صوتا
للفنان الكبير علي الآنسي، ولكنه كغيره من فناني الجيل الثاني لم يأخذ حظه في الساحة
اليمنية كما الجيل الأول والثالث! ومات في فترة تختلف عن ما قبلها وما بعدها من حيث
نظرة المجتمع إلى الفن!
لقد شدتني تلك الحادثة وجعلتني أتذكر أحداثا
أخرى حدثت في الوطن العربي في فترة التسعينات وبداية الألفينات، كل تلك الأحداث يجمعها
رابط واحد هو بلوغ السلطة التي كان يمارسها الخطاب الديني المتشدد على المجتمع ذروتها.
في فترة التسعينات وصل الخطاب الديني المتشدد
ذروته في سلطته على المجتمعات العربية، لقد كان ضغطه على المجتمعات واضحا، أما ضغطه
على الفنون فكان أكثر وضوحا، لقد كانت تلك الفترة هي الفترة الطبيعة لقطف ثمار الخطاب
السلفي المتشدد، الذي تدرج في العقد الذي قبله، ثم خدمته السياسة والمال والإعلام،
ليعبر عن مذهب واحد ويلغي بقية المذاهب، ويعبر عن رأي واحد ويلغي بقية الآراء، خطاب
قلب فقه الأولويات رأسا على عقب، فهون العظيم وعظم الهين، وصغّر الكبير وكبّر الصغير،
خطاب ركز مفرداته على محاربة الفنون، وعلى أي اجتهاد يخالفه.
لقد اكتشف الناس فجأة في ذلك العقد أنهم
يمارسون محرمات كبيرة لم يكن يدركوها رغم أنهم ولدوا لآباء مسلمين! فالفنون بأنواعها
حرام! ومتابعة التلفزيون حرام! وكشف وجه المرأة حرام! وإطالة الثوب حرام، وحلق اللحية
حرام ..الخ من القضايا التي جعلت المجتمع يخوض صراعا في الحاشية على حساب المتن، وينظر
لقضايا الفنون على أنها سبب دمار المجتمعات في حَوَل عن الأسباب الأهم للتراجع الحضاري،
وفي غمرة نشوة الصحوة تلك نسوا سؤال النهضة!
ربما كانت بطون الكتب تشمل ذلك كله، ولكنه
لم يكن مركزا في أذهان الناس فلم ينظروا لتلك الأشياء كنظرتهم لها بعد ذلك الخطاب الذي
جاءهم من كل اتجاه.
في فترة التسعينات وتحت ضغط ذلك الخطاب
انتشرت ظاهرة اعتزال الممثلات المصريات، وسمعنا أسماء كثيرة تتالى اعتزالها لأسباب
دينية، ربما كانت الصورة أكبر من حجمها في ما يقع فيه الفن من أخطاء، فبقي أولئك المعتزلون
في حالة ارتباك بين شطب الماضي أو إبقائه، وأنا هنا أحاول تفسير الظاهرة فقط وليس الحكم
عليها..  وفي عام 1989م وتحت ضغط ذلك الخطاب
قدم الفنان السعودي محمد عبده استقالته عن الغناء رغم أن غناءه يحسب على الفن الملتزم!
ولم أجد من تفسير لذلك غير شدة ذلك الخطاب، لقد عاد بعد ثمان سنوات بعد أن هدأت العاصفة
قليلا. وفي عام 2000م توفي الفنان طلال مداح على خشبة المسرح وهو يعزف العود فانهالت
الأشرطة والمحاضرات التي تحكي عن سوء الخاتمة!
في هذه الفترة كان الشيخ محمد الغزالي آخر
المحاربين القدامى يحاول بحديّة الوقوف في وجه تلك الرياح الآتية من الصحراء، فكتب
بلغة لاذعة في مواضيع شتى ليقول للناس هذه آراء يمكن الاختلاف فيها وليست كما يزعمون..
لكن الكتب والمحاضرات التي انهالت عليه لتصفه بكل صفات التبديع كانت كبيرة، وفي حضوره
لمؤتمر إسلامي في الرياض في العام 1996م قام إليه أحد متبنيي ذلك الخطاب واتهمه بمعاداة
السنة فانفعل الشيخ وعلا صوته وهو يدافع عن موقفه فأصيب بجلطة توفي على أثرها ودفن
بالمدينة.
في فترة التسعينات اضطر نصر حامد أبو زيد
للخروج من مصر على إثر أحد أفكاره، التي اتهم فيها بالارتداد والإلحاد فحكمت عليه المحكمة
بالتفريق بينه وبين زوجته، وفى نهاية المطاف غادر نصر حامد أبو زيد وزوجته ابتهال يونس،
القاهرة نحو المنفى إلى هولندا في العام 1995. مع العلم أن هناك أفكارا قيلت فيما بعد
كانت أجرأ مما قاله ولكنها كانت أقل ضجيجاً والسبب يعود بنظري لتراجع سلطة ذلك الخطاب.
وفي يونيو 1992 قُتل المفكر المصري فرج
فوده، على إثر آرائه التي اصطدمت مع الأزهر ومع الجماعات الإسلامية، فكفروه ثم أفتى
الخطاب المتشدد في الجماعة الإسلامية بقتله، وحين سئل قاتله في التحقيق عن سبب قتله
قال إنه بسبب ارتداده، ولما سئل من أي كتبه عرف أنه مرتد، أجاب بأنه لا يقرأ ولا يكتب
وإنما سمع من الشيخ فقط!!
ومما أتذكره عن تلك الفترة ما كان يجري
على مستوى الأسرة الواحدة، من شباب أعلنوا الحرب على أهلهم بحجة أنهم يخالفون بعض مظاهر
الإسلام، أو أنهم يقعون في بعض مظاهر يررون أنها بدعية! وفاصلوا بطريقة فجة -بحجة الاختلاط-
بين ذكور وإناث ذوي القربى من الدرجة الأولى، بل ووصل ذلك الفصل للعائلة الواحدة! ونتج
عن ذلك قطع لأواصر الأرحام، فلا يلتقي الذكر بأي أنثى قريبة له ممن ليست من محرماته،
رغم حضورها في جو جماعي مع العائلة، ورغم لبسها الساتر! وصار محرما عليه أن يرى وجه
قريبته تلك إلى الممات! وهذه مظاهر طارئة على المجتمع ولم تكن موجودة من قبل. 
لقد خفّ ضغط ذلك الخطاب قليلا على المجتمع
اليوم بعد أن تنوعت وسائل الإعلام، واستطاعت أصوات أخرى أن تبرز الرأي الديني المتسامح
الذي يضع كل شيء في مكانه، ويرتب الأولويات بشكل سوي، ويزن الأمور بميزانها، صوت يحقق
التعايش بين أبناء المجتمع، الصوت الذي لا يعلن نفسه حاكما على الناس، وإنما يكتفي
بأن يسير على خطى الأنبياء في دعوة قومهم بالتي هي أحسن، فالناس ليسوا أسوأ من فرعون،
والدعاة ليسوا أفضل من موسى “اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا
لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى”، “لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُسَيْطِرٍ”، “فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ”.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة
نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها
ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى