عبدالعزيز المقالح: كلما ازدادت الشعوب تقدماً زاد اهتمامها بالشعر
في حديثه عن تجربته مع قراءة وتدريس الشعر والاحتفال بيومه العالمي يستحضر الشاعر اليمني عبدالعزيز المقالح، عدداً من الذكريات والرؤى، في حوار مع «القدس العربي»، بدءاً من رؤيته تجاه واقع الشعر اليوم، وتجربة قراءته وتدريسه، وغيرها من المحطات، بما فيها إقرار يومه العالمي، وذكريات الاحتفال به يمنياً في حديقة عامة، ومن ثم في سوق، حيث «كانت مساحة السوق غاصة بالناس، وكان ضجيج الأصوات وتداخلها يُثبت استحالة سماع أصوات الشعراء إلاَّ أننا ما كدنا نبدأ حتى غمر الساحة حال من الصمت غير المسبوق، وبدأ الحضور يتجمعون حول المنصة مُنصِتين، وكأن على رؤوسهم الطير، وأتضح ألا مشكلة بين الشاعر والجمهور». يمن مونيتور/القدس العربي
في حديثه عن تجربته مع قراءة وتدريس الشعر والاحتفال بيومه العالمي يستحضر الشاعر اليمني عبدالعزيز المقالح، عدداً من الذكريات والرؤى، في حوار مع «القدس العربي»، بدءاً من رؤيته تجاه واقع الشعر اليوم، وتجربة قراءته وتدريسه، وغيرها من المحطات، بما فيها إقرار يومه العالمي، وذكريات الاحتفال به يمنياً في حديقة عامة، ومن ثم في سوق، حيث «كانت مساحة السوق غاصة بالناس، وكان ضجيج الأصوات وتداخلها يُثبت استحالة سماع أصوات الشعراء إلاَّ أننا ما كدنا نبدأ حتى غمر الساحة حال من الصمت غير المسبوق، وبدأ الحضور يتجمعون حول المنصة مُنصِتين، وكأن على رؤوسهم الطير، وأتضح ألا مشكلة بين الشاعر والجمهور».
الشعر القاسم المشترك
مازال عبدالعزيز المقالح (1937)، وبعد أكثر من ستة عقود مع القصيدة، مُخلِصاً للشعر، متجدد العطاء، مُجدداً ومؤثراً في مسيرة قصيدة التفعيلة عربياً، التي يُعدَّ هذا الشاعر من أبرز أصواتها، ومن الجيل الذي رسّخ حضورها واشرأب بتجربتها ضمن ما يعرف بجيل ستينيات القرن الماضي. وانطلاقاً من تلك التجربة الوارفة يؤكد المقالح، الذي صدرت له عشرات الدواوين والكتب النقدية، وتناولت تجربته عشرات الرسائل والأطروحات، بقاء الشعر في مكانته المتقدمة، كما هو عليه، في أهميته في الحياة انطلاقاً من أن الشعر هو القاسم المشترك بين كل ما هو جميل، حيث «أن الشعر رفيق كل إنسان في حياته اليومية، وإن لم يكن يدري، وهو القاسم المشترك بين كل الفنون المقروءة والمسموعة والمرئية، وهو قبل ذلك وبعد ذلك صوت الأقاصي وصدى الأعماق، والفن المنبث من سائر مكونات الحياة، ابتداءً من جماليات المعمار إلى النظام الإيقاعي المتناغم في الحياة المنزلية، في غرفة الجلوس الشاعرية مثلاً أو على مائدة الطعام، وألوان الستائر المُسدلة على النوافذ، فضلاً عن الكلمات الموزونة الموقعة للأغاني التي لا يتوقف بثها على مدار الليل والنهار، والتي يتابعها الملايين في منازلهم وخارج المنازل».
يوم الشعر
ما دام الشعر يحتل هذه المكانة، وهو الذي يحتفي بنا جميعاً ويستولي على كل منافذ الحياة وتفاصيلها ذات الإيقاع الحي والمنتظم؛ هل كان هذا الفن في حاجة إلى يوم في العام أو حتى إلى عددٍ من الأيام للاحتفاء به؟
يُجيب :« يبقى هذا السؤال مفتوحاً على الفضاء الواسع وفي انتظار الإجابة سلبية كانت أم إيجابية، علماً بأن عدداً من المبدعين سبق لهم أن باركوا هذا الاقتراح، بتخصيص يوم واحد في العالم للشعر، ورأوا أنه اقتراح رائع، بل أكثر من رائع، ويكفي منه أن يكون للشعر يوم يتذكره فيه من لا يتذكرونه، في حين أنه يعيش معهم ويتنفس بأنفاسهم من خلال الأغنيات – كما سبقت الإشارة – و من خلال الأمثال تارة ومن خلال الحكمة المأثورة تارة أخرى، ومن خلال ما تضمنه التعبير الشعري في لحظات الفرح أو الترح تارات».
قول مردود
إزاء ذلك مازال يتكرر القول إن الشعوب المتقدمة لم تعد تهتم بالشعر ولا تحتاج إليه، هنا يرى المقالح أن هذا الكلام «قول مردود، فكلما ازدادت الشعوب تقدماً وارتقاءً زاد اهتمامها بالجمال في أشكاله وأنواعه المختلفة. والشعر – كما سبقت الإشارة – قاسم مشترك بين كل ما هو جميل وبديع في هذه الحياة من حديقة الزهور إلى طبق السلطة بألوانه وتشكيلته الشعرية التي تجعل منه في موائد المتقدمين قصيدة بديعة اللون والإيقاع».
الشعر والتطهير
لكن وعلى الرغم من كل ذلك؛ مازال تعريف الشعر سؤال صعباً، يوضح :« لقد حاول المبدعون قديماً وحديثاً تعريف الشعر وتلمس مصادر سحره، وما يبعثه من انتشاء في الروح الإنسانية، لكنهم فشلوا أو أن بعضهم اكتفى بالاقتراب من هوامشه الخارجية، ومنهم من رأى أنه كالماء والهواء يُعاشان ولا يعرف لهم البشر، بمن فيهم العلماء، حقيقة تقبلها النفس بارتياح تام، ومن هنا فإن تعريف الشعر ليس عسيراً فحسب؛ بل هو مستحيل، ويكفينا منه أنه يُسعدنا ويعبِّر بكلمات قليلة عن شعورنا في لحظة ما، سواءً كانت هذه اللحظة ترتفع بنا إلى قمة الفرح أو تقودنا إلى قمة الحزن. وكما يقال عن المسرح إن مهمته غير المباشرة تطهيرية، تطهير النفس من الشجون والانفعالات؛ فكذلك هو الشعر الذي ربما كان دوره أكبر في مجال التطهير وتحرير الروح من التعقيدات والتشعبات التي تنعكس عليها من الواقع وما يطرأ عليه من تغيّرات وتبدلات تُفقد الروح توازنها واستقامة مسارها». ويشير المقالح إلى البدايات الأولى لاعتماد اليوم العالمي للشعر والاحتفال به…قائلاً: لنا في هذا الصدد أن نتذكر ردود أفعال الاستجابة الأولى لأول يوم عالمي للشعر (21 آذار/مارس) بعد أن أعلنت منظمة «اليونسكو» منذ عام 1999. ومما تجدر الإشارة إليه أن عدداً من المبدعين الفلسطينيين على رأسهم محمود درويش كانوا وراء إحداث هذا الإعلان، مع عدد من المبدعين المغاربة، والمهم هو كيف تجاهله البعض واستجاب له آخرون».
الشعر في الحديقة
وعن تجربته مع أول احتفال يمني بيوم الشعر العالمي يقول المقالح: «بالنسبة لي فقد وجدتُ تجاوباً منقطع النظير لا في أوساط الشعراء فقط وإنما في أوساط كثير من المواطنين الذين يحبون الشعر ويحرصون على حضور مهرجاناته. كانت الاختلافات تتمحور حول مكان إحياء هذا اليوم؛ هل يكون في قاعة من القاعات الكبيرة؟ وهل تكفي قاعة – مهما كان اتساعها – لاستيعاب الجمهور الذي سيتوافد للحضور؟ وتم الاتفاق على أن يكون المكان المناسب في أوسع حديقة في العاصمة، مع توفير المقاعد والمنصة ومكبّر الصوت، وكانت حُجة أصحاب هذا المُقترح أن حرية الشعر تجعله يرفض الأماكن المُغلقة ويرغب في التحليق والطيران في الهواء الطلق، وقد نجح هذا المقترح الأخير ونال الإجماع؛ فكان أول احتفاء يمني بأول يوم عالمي للشعر في حديقة مليئة بالأشجار والزهور والطيور، وكان صوت الشاعر يمتزج بما تبعثه كائنات المحيط من همسات وإيقاعات خافتة».
الشعر في السوق
وعن الاحتفال بيوم الشعر في العام التالي في اليمن يستطرد: في يوم الشعر العالمي في العام الثاني كان عدد من الشعراء الفاعلين والمؤثرين قد اتفقوا على أن تكون القراءة الشعرية المواكبة لهذا اليوم في أوسع سوق يتجمع فيه أكبر جمهور، وأن تُقام منصّة خشبية صغيرة يعتليها مُقدّم الحفل أولاً، ثم يتوالى صعود الشعراء عليها واحداً تلو الآخر في قراءة ما كانوا قد اختاروه لهذه المناسبة. كانت مساحة السوق غاصة بالناس، وكان ضجيج الأصوات وتداخلها يُثبت استحالة سماع أصوات الشعراء، إلاَّ أننا ما كدنا نبدأ حتى غمر الساحة حال من الصمت غير المسبوق، وبدأ الحضور يتجمعون حول المنصّة مُنصِتين، وكأن على رؤوسهم الطير، واتضح ألا مشكلة بين الشاعر والجمهور. كانت القصائد متنوعة بتنوع الشعراء، كان فيها القصيدة العمودية، وقصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر، ثم القصيدة الشعبية المكتوبة باللهجة العامية، وكان صمت الجمهور ومتابعته مُثيراً للإعجاب، كما كان تعطُّش الجمهور إلى سماع الشعر والتفاعل الفطري معه مثار إعجاب أكبر، وهو الدليل على أن في إمكان الشعر أن يدخل إلى هذه الأوساط ويؤثر فيها وألاّ يظل معزولاً في دائرة الشعراء والغاوين فقط» .
وبعد أن أمضى ما يقرب من نصف قرن في تدريس الشعر يشير المقالح، وهو أستاذ الأدب العربي في جامعة صنعاء، إلى ما تعلمه من تجربة قراءة الشعر في الفضاء المفتوح، حيث «تعلمتُ كيف أتحدث إلى طلاب الدراسات العليا عن الشعر خارج القاعات، التي لا توحي للطالب ولا للأستاذ بما تنطوي عليه بعض القصائد من تواصل مع مفردات الكون التي هي في الوقت ذاته مفردات القصيدة، وما تقوله صورها أو بالأحرى تعكسه عن مكونات الفضاء المفتوح، وكانت البداية لأبي الطيب المتنبي مع إحدى بائياته الشجية ، وتوقفت فيها كثيراً عند هذا البيت الذي أثار إعجاب الطلاب وكأنهم يسمعونه لأول مرة وهو:
وكيف التذاذي بالأصائلِ والضحى
إذا لم يَعُدْ ذاكَ النسيم الذي هبَّا
فقد أدرك الطلاب في ذلك اليوم حقيقة الشعر وصلته بالطبيعة والكون كما لم يدركوا هذه الحقيقة في يوم من الأيام، وصار عليهم بعد ذلك أن يبحثوا في دواوين الشعراء، وفي كتب النقد الأدبية هذا المنحى الذي يؤكد حقيقة أن الحياة مغمورة بالشعر، وأن الشعر مغمور بتفاصيل الحياة بعيداً عن الدراسات البلاغية المبثوثة في كتب النقد الأدبي القديم منه والحديث».
وقال عبد العزيز المقالح : «حبذا لو استطاع الأساتذة المتخصصون في نقد الشعر العربي وتدريسه أن يخرجوا بطلابهم إلى الضواحي القريبة من المدينة، أو يصعدوا بهم إلى بعض التلال أو إلى سفوح الجبال المُطلّة على الوديان والقرى وجعلوهم يتحسسون معاني الطبيعة في ذلك الواقع النقي المفتوح، وتلك هي الهدية الثمينة التي تلقيتها من الاحتفاء بأول يوم عالمي للشعر».