سأحاول الوقوف عند نقطة مفصلية ومهمة في نجاح تجربة العدالة والتنمية بل وفي نجاح كل الدول، تلك النقطة الخطيرة التي لا زال خطاب الجماعات الإسلامية لم يحسم أمره فيها، ولا زال يرفض بل ويكفر في بعض الأحيان من يقول بها، إنها قيمة “الحرية”. من المفارقات العجيبة التي تتكرر باستمرار مع كل نجاح يحققه حزب العدالة والتنمية في تجربته في حكم تركيا أن خطاب أغلب الجماعات الإسلامية تؤيد ذلك الحزب في سياسته وتؤيد زعيمه رجب طيب أردوغان، بل ويجدون فيه أقرب الأنظمة إلى تطبيق الإسلام، بينما يقفون ضد أهم قيمة يؤمن بها أردوغان وحزبه!!
وهنا سأحاول الوقوف عند نقطة مفصلية ومهمة في نجاح تجربة العدالة والتنمية بل وفي نجاح كل الدول، تلك النقطة الخطيرة التي لا زال خطاب الجماعات الإسلامية لم يحسم أمره فيها، ولا زال يرفض بل ويكفر في بعض الأحيان من يقول بها، إنها قيمة “الحرية”.
وبمناسبة الحديث المستمر لأردوغان عن علمانية تركيا، والتي لا تعترف بها الجماعات الإسلامية العربية المؤيدة لأردوغان، سأذهب مباشرة إلى جوهر نجاح تلك التجربة، سأذهب إلى نقاش قيمة “الحرية” كأساس مهم في انسجام الهوية الوطنية وتعايش المجتمع بمختلف توجهاته ومذاهبه وفئاته.. إذ لا يوجد مجتمع ليس بحاجة للحرية، ولا يوجد مجتمع ينعم بالعدالة والتنمية بدون الحرية.. فالحرية قيمة إنسانية تحتاجها كل المجتمعات، فكل مجتمع لا يخلو من تنوع واختلاف وليس من حل للتعايش غير الحرية.
بالعودة إلى تجربة أردوغان سنجد كيف أن قيمة الحرية قد حلت كثيرا من المشكلات التي كانت تعانيها تركيا، وعلى رأس تلك المشكلات مسألة الأكراد ومشكل الهوية، وهي مشكلة تتكرر عند كثير من الشعوب حين تطغى هوية الأكثرية على الأقلية بحجة العدد، وتهدد الأقلية الأكثرية بحجة الخوف من الذوبان في المجموع، لقد كانت مشكلة الأكراد صعبة وحساسة، وبقاؤها بلا حل يعني الدخول في صراع مجتمعي يقسم المجتمع انقسامات حادة، وبالتالي تعطيل التنمية، وهنا تبرز قيمة “الحرية” كحل لهذه المشكلة، ولو لم يكن حزب العدالة مؤمنا بتلك القيمة لاستمرت.
لقد سمحت حكومة العدالة والتنمية بأحقية الأكراد في الحفاظ على لغتهم، والتدريس بها، والحفاظ على نشيدهم الخاص، وفتح قنواتهم الإعلامية الخاصة والمعبرة عن ثقافتهم، وتنمية مناطقهم، وبذلك أصبح النسيج الكردي منسجما مع النسيج العام التركي، وكل ذلك تحت مفهوم تعدد الهويات تحت سقف الهوية الجامعة التي عبر عنها أردوغان بقوله “إن جميع المواطنين البالغ عددهم 76 مليون نسمة، هم أصحاب الجمهورية التركية وبشكل متساوٍ” وبقوله “اللغة التركية هي اللغة الرسمية للبلاد، والسماح بالتعليم الخاص بلغات غير تركية لا يتعارض مع هذا الأمر، بل يعزز مبدأ حرية التعليم بالبلاد”.
وفي دور الدولة في حماية الحرية يقول “نحن نؤمن بأن الدولة يجب أن تقف على مسافة واحدة من جميع المعتقدات، وأن جميع الجماعات بمختلف عقائدها تحت حماية وضمان الدولة” “إننا لن نسمح بعد اليوم لأحد على الإطلاق بممارسة العنصرية والتفرقة ضد أبناء الشعب التركي”.
وحتى حين وقف أمام العلمانية السلطوية في تركيا ومن يدعمها من أوروبا في قضية “الحجاب” فإنه لم يواجههم بأهمية الحجاب أو شرعيته وإنما واجههم بالحرية، تلك القيمة التي أحرجت خصومه فلم يجدوا منطقا في تلك المعركة فكسبها، إن إردوغان لم يدع إلى لبس الحجاب كما يظن بعض مؤيديه من الجماعات الإسلامية، فمعركته معهم لم تكن حول “لبس الحجاب من عدمه” وإنما كانت معركته مع الحرية، حين منعوها ممن تريد أن ترتديه، لقد رفع شعار الحرية أمام الجميع، من يريد أن يلبسه فليلبسه ومن يريد أن يخلعه فليخلعه، ولا أقوى من تلك المقولة التي لم يجدوا في وجهها منطقا عقليا سليما، يقول أردوغان في بعض خطاباته “حرية ارتداء الحجاب في المؤسسات الحكومية الذي أقررناه في حزمة الإصلاحات الديمقراطية هي خطوة هامة نحو تعزيز حرية التعليم بالبلاد”. لقد كان يتحدث عن الحرية لا عن فرض الحجاب، وقال أيضا “تركيا الجديدة تضمن حقوق المحجبات وغير المحجبات، فالجميع متساوون في الحقوق والواجبات، وحكومتنا لا تسمح لأي طرف باغتصاب حق الطرف الآخر”. وهنا يتكلم عن حق الحرية كحق لكل مواطن تركي، وسيدافع عمن تريد خلع حجابها كدفاعه عمن تريد لبس حجابها ضد كل من يكره الناس على رأيه.
تلك كانت حجة أردوغان ضد خصومه من أعداء الحرية فماذا سيقول مؤيدوه من الإسلاميين العرب؟ هل سيكتفون بالتصفيق له ولنجاحاته وكفران الحرية التي استند إليها في حل أعوص مشكلات بلاده! أم سيقولون إن ذلك كان تدرجا منه ل”تمكين الإسلام” كما صدر مؤخرا من أحدهم! إنها سذاجة تتهم الإسلام بالاستبداد وتتهم أردوغان وحزبه بالكذب على شعبه!! فإلى متى ستستمر السذاجة المخدرة لأصحابها بالوهم؟ ألم يأن لخطاب الجماعات الإسلامية أن يراجع موقفه السلبي من الحرية؟ ألا يدركون أنهم يقفون ضد أهم قيمة في الإسلام؟ فالدين لا يمكن أن يكون بدون تلك القيمة.
إن هذا الخطاب يعيش أوهاما ثلاثة في نظرته إلى الحرية، فالحرية مساس بالدين حين تناقش مسلماته، ونشر للإلحاد، وفساد أخلاقيا، ورغم ما قد يحدث من ذلك إلا إنها مبالغة يكذبها الواقع التركي الذي يتدين فيه أغلب المجتمع بما فيه أعتى الأحزاب العلمانية، ثم إن هذه النقاط لو نوقشت نقاشا هادئا لوجدنا أنها أوهاما تعيق أصحابها عن أهم قيمة في الدين، فالإسلام لا يخاف من طرح أي سؤال عليه ما دام يمتلك الحجة والبرهان، ولذا عرض القرآن حجج خصوم الأنبياء وفندها، كي علمنا كيف نتعامل مع تلك الأسئلة.. أما انتشار الإلحاد عند بعضهم فربما لا يوجد مجتمع إلا وفيه ملحدون، والمجتمعات التي تكرههم على الدين تحولهم إلى منافقين، فما الفائدة في تحويل الملحد لمنافق؟ ألا يجدر بالمتدينين أن يناقشوا ويحاوروا ويطوروا من خطابهم ويرفدوه بالبرهان والدليل كي يكبسوا المعركة في إطار المجتمع المدني بدلا من التكفير والتحريض والهجوم الذي يزيد الشرخ الاجتماعي ويفقدنا أهم قيمة في الدين وهي الحرية؟!
إن أدلة الإيمان في تزايد وأدلة الإلحاد في ثبات، ومخرجات العلم ترفد ساحة الإيمان كل يوم، والخطاب الفلسفي القائم على الإيمان أقوى وأمتن من الخطاب الفلسفي المادي، فلماذا يتكاسل المتدينون عن تثقيف أنفسهم وتقوية حججهم ودخول ميدان الحوار والنقاش والمناظرة بعتاد العلم والمعرفة بدل خطاب التحريض والإكراه والتكفير والتفسيق والتبديع؟ إن عالم القرية الواحدة لم يعد ينفع معه “ثقافة المنع” وما ينفعه هو “ثقافة المناعة”، تلك المناعة التي تتحصن بالإيمان الراسخ القائم على الأدلة والحجج والبراهين وأسس العلم والمعرفة.
أما خوفهم من فساد الأخلاق فهو وهم نشأ من حصرهم للأخلاق في دائرة ضيقة، ذلك أنهم يقصرونها على دائرة علاقة الرجل بالمرأة، ورغم أهمية تلك الدائرة إلا أنها جزء من الأخلاق لا الأخلاق كلها، ووصفنا للمجتمعات الغربية بأنها تنحدر أخلاقيا يركز على تلك الزاوية، وينسى أن تلك المجتمعات أكثر صدقا وإتقانا وإلتزاما بالوعود، والتزاما بالمواثيق، واحتراما للعمل وأقل رشوة وأقل فسادا، وأكثر عدالة ومساواة، وغيرها من الأخلاق المهمة التي تفتقدها مجتمعاتنا التي تظن نفسها أحسن حالا من أولئك، فقط لأنهم حاصروا المرأة بكثير من القيود باعتبارها “فتنة” كما يزعمون!!
لقد نظم الإسلام تلك العلاقة أحسن تنظيم، ولكن الخطاب الديني زاد قيودا لم تكن من الدين، وبات القائمون على الخطاب الديني يرون في الخروج على تلك القيود تفلتا وانحدارا أخلاقيا، ولو أنهم عادوا لأصل الدين لوجدوه أكثر فسحه مما يقولون.. ثم إن إكراه الناس على أخلاق تعود إلى الدائرة الخاصة بين العبد وربه يعد تعديا على الدين ذاته، فالدين وضع تلك الدائرة لله يحكم فيها يوم القيامة، فيعاقب من عصاه ويجازي من أطاعه، ومن يعاقب الناس في الدنيا على تلك الدائرة فإنه يجعل من نفسه إلها، ويقترب من أخطر الذنوب وهو الشرك.. أما تلك الأخلاق التي تكون في دائرة علاقة الناس ببعضهم وفقدها يسبب ضررا أو مفسدة على أحدهم فإن الدولة تنظمها بقوانين محددة وتعاقب من خرج عليها.
إننا باختصار ننادي الحركات الإسلامية العربية أن تؤمن بما آمن به أردوغان وحزبه من الحرية حتى لا تعيش فصاما أو وهما، وحتى نستفيد من تجارب غيرنا في حل مشكلاتنا.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.