عدن في متخيل روائي
في عمله السَّردي الرابع “ستيمر بوينت” الصادر في بيروت عن دار التنوير 2015 يواصل القاص والروائي اليمني أحمد زين، المولود في مدينة الحديدة سنة 1969، كتابته الإبداعية ليس بعيداً عن أنطولوجية وطنه اليمني منذ شروعه بكتابة القصَّة القصيرة حتى الآن. يمن مونيتور/العرب اللندنية
في عمله السَّردي الرابع “ستيمر بوينت” الصادر في بيروت عن دار التنوير 2015 يواصل القاص والروائي اليمني أحمد زين، المولود في مدينة الحديدة سنة 1969، كتابته الإبداعية ليس بعيداً عن أنطولوجية وطنه اليمني منذ شروعه بكتابة القصَّة القصيرة حتى الآن.
وفي روايته الجديد هذه يستعين بالمتخيَّل التأريخي لسرد ما جرى في وطن كما في بقية أوطان العالم العربي التي سقطت تحت نير أنظمة استعمارية غازية أنتجت ذواتها قريبا من ذوات الآخر المُحتل. فإلى ما يشبه هذه العلاقة بين الطرفين وما تتيحه من مُعطيات تمتدُّ الكتابة عن يوميات ما كان يجري في اليمن مع نهاية نوفمبر سنة 1967 كدولة للتوّ تحرَّرت من ربقة المستَعمِر بعد ثورة 1962.
وبذلك، فرواية “ستيمر بوينت” تنصرف إلى سرد تلك المرحلة وارتباطاتها بكامل منظومة العلاقات التي أنتجتها؛ من مصالح مادية واستعمارية وأخرى ذاتية ونفسية جرت في مدينة عدن ذات الأفق المشرع على عالم ينفتح الداخل اليمني فيه على بعضه بقدر ما يشرف على عالم خارجي كان الآخر المُستعمِر ينطلق منه ويدور حوله وهو ينظر إلى اليمن كلقمة تجارية-حضارية دسمة في مخياله كغاز. وهو ما تعبر عنه هذه الرواية أحسن تعبير.
عتبات
ياخذنا المتن السَّردي إلى مقدِّمة مباشرة من دون عنوان، واثنتين وعشرين فقرة -بين الفقرتين السادسة والسابعة فقرة بلا ترقيم- متراوحة بين الطول والقصر ضمَّتها 172 صفحة من القطع المتوسِّط. لكنّ الرواية تبدأ بثلاث عتبات نصيَّة تفتح فضاءات متنها الحكائي برمته؛ يقول تشرشل “إمبراطوريتنا تبدأ من أسوار عدن”. ويقول الشاعر الفرنسي رامبو “لا يمكنكم أبداً أن تتصوّروا هذا المكان، لا توجد أي شجرة هنا؛ حتى يابسة، ولا عود قش، ولا قطرة ماء عذبة، ولا ذرة تراب، فعدن قعر بركان ساكن ومطمور بالرمال البحرية”. أما الذاكرة الشعبية فجاء عنها “عدن، عدن، لكِ بحر تغرقي به، يا منْ دخل لكِ نسي حبيبه” (ص 5).
إلى مدينة عدن الساحلية، وتحديداً إلى مينائها التجاري البحري أو “التواهي: الحي الأوروبي الذي يطلق عليه الإنكليز ستيمر بوينت، أو ملتقى البواخر” (ص 45)، ومدخل الغازي البريطاني الذي ولج من خلاله إلى اليمن وفرض وجوده الكولونيالي هناك، فأنتج ذاته في علاقته مع الآخرين مقابل علاقة هؤلاء به على نحو متوتر تراوح بين الحب والكره والعمالة له والتمرُّد عليه والثورة ضده.
كانت عدن ملتقى لأجناس من البشر منهم البريطاني والأميركي والفرنسي والدنماركي والهندي والصومالي والأثيوبي، ومنهم المسيحي واليهودي والهندوسي والزرادشتي والمسلم. إن فسيفساء الأعراق هذه كانت كفيلة بإنتاج لحظتها الزمانية المفتوحة على أعراق وجنسيات الآخر المختلف التي تتعايش في عدن، وكلها تظهر وفق برامج سردية خاصَّة بها تجلت في مسارات المتن الحكائي العام للرواية التي حرص أحمد زين على توتيرها فعلاً وتصويرا.
يوميات ما كان يجري باليمن في نهاية نوفمبر سنة 1967 كدولة للتو تحرَّرت من ربقة المستعمر بعد ثورة 1962. وبذلك، فرواية “ستيمر بوينت” تنصرف إلى تسريد تلك المرحلة بكل منظومة العلاقات التاريخانية التي أنتجتها
التعايش المر
يبدأ الروي بضمير المُخاطب بعبارة “رآك أخيراً” (ص 7)، أما من الناحية الزمنية فيأخذنا السَّرد إلى نوفمبر 1967 أي بعد ثورة الاستقلال بخمس سنوات (1962)، وبقايا استعمار تبكي رحيلها العاصف حيث التاجر الفرنسي أو العجوز الذي يمارس التجارة بنشاط ذكي منذ قدومه إلى اليمن سنة 1918، هذا التاجر الذي استثمره الناص أو أحمد زين كواجهة ينظر من خلالها إلى ما كان يجري حينها، الفرنسي العجوز الخائف حدَّ الموت من أن يتم اغتياله بوصفه بقية مستعمِر بدأ به الروائي سرديته، وكان تصويره في كل متن الرواية كشفاً للتوتر والقلق اللذين اعتريا الفرنسي وهو يعيش نهاية أيامه هناك، هذه المدينة ووفق هذا العجوز الذي بات يراها “عدن أخرى، تلال جرداء تثير الوحشة، ومرفأ قديم، مثلما هي صورتها الأولى” (ص 43). في ظل الخوف الذي يعتريه؛ حيث “يفكِّر في ما يجري ويتخيَّلهم؛ أولئك الفدائيون يفعلونها به مساء، وفي حجرة الجلوس نصف المعتمة يتركونه يتخبَّط في دمه” (ص 44).
اتّخذ التاجر الفرنسي من “شاب” يمني سيتضح لاحقاً أن اسمه “سمير” (انظر ص 53) عاملاً لديه في متجره؛ سمير ابن الثلاثين عاماً وأكثر والذي أودعت ثورة 1962 والده النجّار إلى العالم الآخر عندما “انضم إلى الجمهوريين في ثورة سبتمبر حيث قُتل” (ص 70)، هذا الشاب ترك مدينته “الحديدة” شمالاً متوجِّهاً إلى عدن جنوباً (انظر ص 13) للعمل في أواخر ديسمبر 1962، عدن التي ما زالت ترزح تحت بقايا مستعمِر ومن خلاله ومن خلال علاقاته مع غيره ممن يلتقيهم سيتم استدراج الأمس الاستعماري بالكثير من حراكه إلى معزف التسريد الذي سيتناول أيضاً علاقة الشاب سمير مع حبيبته اليمنية اليسارية “سعاد” والتي تراوده في يومياته كأمل مفقود ظلّ يحنّ إليه وهو الكاتب المسرحي (انظر ص 55) بعد أن عاش معها أياماً جميلة لا تخلو من التصادم في الأفكار قدر التواصل البيني المتوتر على صعيد التجربة العاطفية.
يظهر الشاب سمير منذ مفتتح الرواية ولكن من دون اسم سوى “الشاب” (ص ص 7-18)، ثم يتواتر حضوره بين فصل وغيره في الرواية، إلاّ أن الناص أو أحمد زين حرص على استخدام ملفوظ “الشاب” عندما يتعلَّق الأمر بطريقة سرد مدار العجوز الفرنسي، أما خارج ذلك فيستخدم اسم “سمير”، خصوصاً عندما يلتقي مع أصدقائه اليساريين ومنهم “سعاد” التي يحب فضلاً عن “نجيب” و”سعاد” و”فائزة” و”عمر” و”أشواق”.
تبدو شخصية الشاب سمير قلقة من الناحية الوجودية هكذا مثلها الناص/السارد، كما أنها تبدو شخصية شاهدة على عذابات وطن محتل في ضوء تجربة استشهاد والده ويمتد قلقه أكثر في مرافقته للعجوز الفرنسي المتعالي عرقياً وثقافياً على عامله الشاب الذي يستشعر ما يكنُّه العجوز من أحقاد للعرب كونه أنموذجاً للمحتل البراغماتي-التجاري هذا العجوز الذي سيختفي في نهاية الأمر مودِّعاً عدن إلى حيث شاء.
إن الذات والحب والحرب والاحتلال والمآل تلك هي أحوال هذا “الشاب” أو “سمير” في الرواية، إنه فاعل مسرود يكشف وجوده عقلية المحتل وأهواءه عبر ملازمته للفرنسي العجوز. هذا من جهة، ومن أخرى كان انخراطه في صداقات مع “نجيب” و”سعاد” و”فائزة” و”عمر” و”أشواق” لا يعدو أن يكون شرفة يلقي النص من خلالها ضوءًا على حراك اليمنيين في عدن لا سيما اليسار الطليعي أو هكذا، وهو توازن لجأ إليه أحمد زين لتفعيل العلاقة بين الداخل والخارج، كاشفاً في الوقت نفسه عن مسارات الشخصية اليمنية في ميولها للعمل مع رموز الغزاة أو ضد وجودهم الذاتي والموضوعي.
سرد الأنا صحبة الآخر في زمانية كولونيالية
لقد ترك الشاب سمير اليسار النامي في عدن، بل قل تملّص من تياره وترك “سعاد” التي يحب دون استجابة منها رغم أنه تخلّى عن كتابة “مسرحيته” التي يستبطن فيها ميوله نحو المستعمر البريطاني، بحسب منظور الحبيبة “سعاد”، ذلك التخلّي الذي لم يعن شيئاً بالنسبة إليها كونها أصلاً تتقاطع مع “سمير” أيديولوجياً، ليبقى هذا الشاب مستقلاً، بعد يأس، عن حراك ما يجري سوى رغباته المكبوتة في داخله لكن هذا الشاب ظلَّ الشاهد على مغادرة البريطانية “آيريس” والغياب الغامض للعجوز الفرنسي وظل على مدى برامجه السردية التي رسمها النص له مولداً للعلاقة بين الأنا المُحتل والآخر الغازي على نحو تصويري رائق.
مقهى قاسم
إلى جانب ذلك يبدأ حضور “قاسم” من الفصل الثاني في الرواية (ص 19)، وقاسم هو صاحب مقهى أو “مقهاية” (ص 30، ص 61) عاش أزمنة طويلة تخلّلتها حروب عالمية عدة، وكان شاهداً بدوره على حضور المستعمر في عدن، من خلال مكانية المقهى التي يلتقي بها أشخاص يعكس كل واحد منهم موجودية ما من خلال ثقافته وأصله العرقي والديني والمذهبي وميله السياسي.
ولذلك حرص الكاتب أو أحمد زين على جعل مكانية المقهى مفتوحة على برنامج سردي يخصّ لغة الناس في المجتمع، لكنّه أيضاً جعل من كل الشخوص في “المقهاية” دوال بشرية تطل على حراك مجتمعي في مدينة عدن، وتعكس الحضور اليهودي والمسيحي والهندي والبريطاني والأميركي والدنماركي وغير ذلك، بغية الكشف عن جسديَّة مدينة عدن التأريخية والحضارية والثقافية والأهم المجتمعية والسياسية والاقتصادية في ظل وجود استعماري كان يلفظ أنفاسه الأخيرة فيها.
لم يدخر أحمد زين في روايته “ستيمر بوينت” جهداً في هدي عمله صوب كتابة جمالية عبر استثمار المتخيَّل التأريخي بوصفه أسلوبية مفتوحة على التأريخ وهي تستلهم تاريخانياً ما جرى وما حدث في زمن مرّ وانقضى وذلك من خلال استدراج فاعلين متنوِّعين من حيث المكان اليمني وغير اليمني، ومن حيث جماع الأعراق والأديان والأمكنة والثقافات والحضارات بمن فيهم المستعمِر الغازي والمحتل، فهؤلاء جميعهم، وكما تبدَّت شخصياتهم ومدارات تسريدهم في المتنين الحكائي والسَّردي، شاركوا في الكشف عن هوية الحدث الذي انقضى وشاركوا أيضاً في الكشف عن مجريات كثيرة لعل منها ما أنتجه المحتل من علاقات جديدة بين الأنا والآخر، أي بين المجتمع، موضوع الاحتلال، ونفسه.
لقد نأى أحمد زين بنفسه، وبوصفه الأكثر ضلوعا بأسرار النص في هذه الرواية، عن أيّ تحيز ممكن أن يلوح للقارئ، إذ ترك الأمر لهذا القارئ؛ ترك له أن يفسِّر بقدر ما يؤوِّل متن الرواية الحكائي وتوجُّهات الشَّخصيات في علاقتها بما كان يجري في مكانية عدن وحراكها الشامل حينها، وهو بذلك يقدِّم جمالية سردية مفتوحة الأثر ليس بالنسبة إلى القارئ وحده بل بالنسبة إلى ذاتها بوصفها قولاً جمالياً عن أمس قريب.