كتابات خاصة

تحليل استراتيجي لغير متخصص

سلمان الحميدي

قبل أن تأتي اللحظة الصادمة؛ كنت قد قررت الاعراض عن حكايا الريف، وأن أتعمق في الكتابة الجدية أكثر وأصير محللًا سياسيًا يمط شفتيه متبرمًا من الواقع أثناء تصفح الجوال، ويشابك بين أصابعه أثناء الحديث. قبل أن تأتي اللحظة الصادمة؛ كنت قد قررت الاعراض عن حكايا الريف، وأن أتعمق في الكتابة الجدية أكثر وأصير محللًا سياسيًا يمط شفتيه متبرمًا من الواقع أثناء تصفح الجوال، ويشابك بين أصابعه أثناء الحديث.
تخيلت أن القرار سيلفت عبدالباري عطوان شخصيًا.
لكن اللحظات الصادمة تأتي لتنسف، في الغالب، كل خططك.
أثناء البحث عن قناة تلفزيونية تعرض مادة جريئة لتشاهدها وحدك، تمر على قنوات تشاهدها لمحة عند هذا الحال فقط. في إحدى القنوات العربية المتخصصة ببكائيات الحسين، رأيت شابًا يمنيًا أعرفه، كان قبل الحرب نحيلًا وتسيطر على وجهه أنف بارزة، صار بدينًا أثناء الحرب وأنفه العريض معقوفًا يظهر فتحتيه كما لو أنهما فتحات معدل ثنائي، أتيت بهذا الوصف لنعش أجواء الحرب.
استضافته القناة تلك.
الشاب يعمل في قناة يمنية تبث من بيروت وتمولها إيران بشكل رسمي. كانت الصدمة في إفراد القناة -التي استضافته وليس التي يعمل فيها- لبرنامج تحليلي وهي المختصة بإبراز مظلومية الحسين، والصدمة الثانية كانت في استضافة الشاب اليمني كمحلل سياسي يمني، بل وبحسب الصفة التعريفية: ومتخصص في الشأن الاسرائيلي!.
كيف عمل حتى صار متخصصًا؟ لا أعرف.
لقد كان “معجب” ينشر مشاركات بسيطة في صفحة القراء في احدى الصحف الرياضية قبل استقطابه، وفي واحدة من أبرز العمليات استهتارًا بالإعلام قدم برنامجًا لتحليل المضمون، ثم استضافته البي بي سي كمحلل سياسي، ولأن الحرب تحدث تقلبًا سريعًا في المزاج النفسي للمواطنين، فإنها تحدث تحولًا سريعًا في الأوصاف المهنية عند صائدي الفرص، لذلك وجد معجب نفسه محلل استراتيجي يمني و.. متخصص في الشأن الاسرائيلي.
أعتقد أني سأعيش معقدًا من التحليل، ولذا عزمت على طَرْق مواضيع جديدة، لجذب الفتيات اللواتي يعشن حالة التنوير الافتراضي. فكرت بذلك وأنا أحمل الحطب وأضعه في صندوق القلاب في عمق الظهيرة.
ولم أجد أثناء ذلك؛ أفضل من الاستقراء السيكولوجي للملامح التي عكست عليها الحرب وجهها: التفاؤل والاحباط.. المشاكل الاجتماعية.. الحزن والفرح.. الحب والبغض.. ورغبة رجل سبعيني في الانتحار.
سأحلل نفسيًا حتى يشعر أنصار فرويد بالغيرة.
يفترض إن كلمتي “الاستقراء السيكولوجي” تشعرني بإحراز تقدم لا بأس به، ليس في الاستقراء، بل بتجاوز حكايا الريف.
لقد عشت مشهدًا في السوق لخص كل شيء.
رجل سبعيني يتوكأ بعكاكيز لشُعْر بالحوض، وهو بالمناسبة والد لشهيد في المقاومة، ولده الكبير وهو استاذ درست عنده من قبل، ترك المدرسة بسبب أزمة الرواتب ويعمل في بيع القات. أتى السبعيني إلى ولده ليدفع له قيمة قرطاس شاي.
كان الرجل السبعيني إلى جوار شقيقه الذي يصغره بنحو عامين، على وجهيهما ترتسمان سكاسك بيضاء باعتبار السكسوكة منجزًا وحيدًا يحملونها من أيام الغربة قبل تدبيس صالح للمغتربين اليمنيين أيام حرب الخليج. سألت والد الشهيد عن حاله، فرد بوجع ممض:
“والله لولا الخوف من ربي وانو شيدخلني النار اننا شاشرب سم واموت” .
تألمت.
وبلحظة واحدة انحدرنا من ذروة الوجع إلى الضحك، عم الشهيد لكز أخاه والد الشهيد بعصا فأسه، وقال مازحًا:
“انت الا اشرب سم واتوكل.. أنت هكه وإلا هكه بالنار.. ذحين انت ساهن الجنة”.
لا أجمل من مزاح الأخوة كيف إذا كان المزاح بين أخوين كبيرين في السن. التفت صاحب العكازين وقد طار وجعه وقال بغضب لأخيه:
“الحمد لله.. عادنا ماركبكوكش”.
رد الأول وهو يغرق بالضحك:
“تذكر أيام الغربة لما اجيت لك وأنت..”.
لفت ناحيتي والد الشهيد وهو يحلف بأنه لم يفعل شيء، فيما كان أخوه فرحًا باستفزازه. شرع السبعيني يذكر أخاه بفضائحه، وقد اعترف الصغير:
“أنا قابطلك” أي تبت.
نسينا الشاي بسرعة
ونسينا الوجع بسرعة
ونسينا فكرة الانتحار بالسم.
هذه هي الحالة التي تُعاش في زوايا تعز.. من الحزن من قسوة الألم، من أقسى الظروف المعيشية، من أسباب الحرب، إلى استدعاء الذكريات للضحك.
أنا لا أصلح أن يصفني أحد بـ”محلل استراتيجي.. ولا متخصص في أي شأن”.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى