إن هذه البلاد التي لا تعرف العافية، تذكرني دائما بأمي المسكينة التي كانت تذهب مع الوجع والمعاناة حتى تصل قبل الموت بقليل، ثم تتجاسر على ضعفها وتنهض من أجلنا ولكي تعود إلى مرضها مجددا. إن هذه البلاد التي لا تعرف العافية، تذكرني دائما بأمي المسكينة التي كانت تذهب مع الوجع والمعاناة حتى تصل قبل الموت بقليل، ثم تتجاسر على ضعفها وتنهض من أجلنا ولكي تعود إلى مرضها مجددا.
لقد حفظت ألمها قبل أن أتعرف على اسمها جيدا، إذ طالما نطقت راء اسمها لاماً من فرط ما اختلط بالألم، ولن أنسى أبدا حالة الرعب التي كانت تصيبني كلما رأيتها تتعرق وتشهق غير آبهة بجدتي وهي تحاول أن تلقنها الشهادة، بينما كنت أنا أتوسلها، لا تموتي يا “حوليا” لا تفلتينا بلا أم، ولعل قلبها كان يضمني بصمت ويربت على كتفي، وحين أشعر بالأمان أتركها و أخرج لكي أمتطي حصاني الخشبي و أركض في القلق بوجه شاحب و قلب مهفوج.
في الواقع، لم يتغير أي شيء سوى أنني كبرت ثلاثين عاما، وكبر معي وجع أمي الذي تربّى معنا في بيتنا القديم وظل يأكلنا كما تأكل الأوجاع الكبيرة هذه البلاد.
ليس للحديث هنا أي علاقة بالماضي، ولست بصدد كتابة مسلسل درامي أو رواية حزينة، لكن الحديث عن الحرب يذكرني بمعركة الإنسان اليمني المقهور الذي كان ومازال يتعارك مع الفقر و المرض والجهل والخوف والغربة والضياع، ومع تلك الحياة النيّئة والمسمومة التي يطبخها التلفزيون الرسمي ويقدمها في المناسبات الوطنية.
لقد عشت في منطقة ملتهبة بالحروب التي ترعاها الدولة، حيث لا مستشفى ولا مشروع ماء ولا خط إسفلت أو كهرباء و لا حتى أدنى مقومات الحياة، في حين كانت ثروة البلاد بيد مراكز النفوذ التي تغذي الصراعات والحروب و تتغذى على رحيق قلوبنا.
عشت ككل طفل قروي، بلا ألعاب و بلا زي أو مصروف مدرسي، لقد كانت الفوطة أبو 6 ربل تكفي لعام كامل.
في المدرسة التي دفعني إليها أبي لينتقم من أمّيّته بتعليمي..
وجدت أبي صالح، ولم أجد أمي اليمن..
لقيت اسم الرئيس، ولم أجد النشيد الوطني..
تعلمت أن حك العانة يبطل الوضوء، ولم يعلموني أن جور السلطان يبطل الحياة..
كعّفوني بأحاديث القناعة والصبر، ولم يتحسسوا بطني الذي يقرقر وجعا و جوعا..
قالوا لي إن الله أمرني بطاعة ولي الأمر، لكنهم لم يقولوا لي إن الله يأمر بالعدل.
وبرغم كل شيء، فلقد نسيت الماضي بكل شروره وأشراره إذ لا خير فيه البتة، لكنني لن أنسى أبدا أمي المريضة، ليس لأنها ما زالت كذلك، تمرض حتى يشبع منها المرض ثم تقوم دون أن تعرف ما أصابها، ولكن لأن بلادي تكرر مأساة أمي، و كل الذين حولها وأعلاها يعبثون بها ويسخرون من وجعها ويثخنون قلبها، وبالتالي فأنا أخوض حربا مقدسة ضد الطغاة واللصوص والمجرمين، ومن أجل أمي وبلادي، وهو ما دفعني للخروج إلى الثورة مع عموم المغلوبين والفقراء.
إن اليمن اليوم، تتعرق وتشهق، و بما أنها لم تحظ بجدة طيبة تلقنها الشهادة، فلسوف تتشبث بتاريخها العريق، بالنقوش والتماثيل وحكايات الجدات، كما لن تعدم أولادا بررة، يجففون عرقها بقلوبهم، ويمسكون بيدها لتنهض كما عودتهم منذ الأزل وحتى الأبد.
في الربيع الأخير، بدأت الحياة تسريح شعرها على الأرصفة، وكان أبو بكر سالم بلفقية يغني ” أمي اليمن” ومن خلفه هدير الشباب الذين خرجوا على و من الماضي رافضين الواقع الرخو الذي ما كان يوما حياة ولا موتا، ما كان حربا ولا سلاما، بقدر ما كان غابة تتكاثر فيها العصابات وتنتفخ الفيلة على حساب الشعب المسحوق والجائع.
في الشوارع، كان الشباب والثورة يضعون الخطوط العريضة لمستقبل الدولة والحياة والحب والعدل والسلام والقانون، وفي الطيرمانات، كانت المدينة تتكوم على نفسها وترشق القلوب الحالمة بالرصاص والمكيدة والخذلان والخيانات التي انتهت بالحرب الملعونة قبل أربع سنوات من الموت وبعد أربع سنوات من مسيرة الحياة.
لقد سقطت العاصمة، وسقط أخر هتاف ينشد الحرية والسلام، سقطت الدولة وسقط معها المثقف المخاتل، سقطت الصحيفة، وسقط معها آخر خبر عن المستقبل، سقطت مزهرية الورد، و ارتفع صوت البارود.
لم تكن اليمن قبل ذلك بخير، لكنها كانت على بعد ورقة اقتراع من خير أكيد توافق عليه اليمنيون.
لم يجد اليمني بدًا من مواجهة قدره بجسارة، إذ لا خيار أمامه إلا أن يكون عبدا ذليلا لألف سنة قادمة، أو يحمل السلاح ويحارب من أجل السلام.
لقد انقلبت عصابة الألف عام، على حلم الدولة، مجرد حلم، لأننا كنا في الأساس بلا دولة.
أربع سنوات من الحرب!!
يا لها من مأساة وفظاعة، أربع سنوات من الموت والجوع والمجاعة والكوليرا والتشرد والضياع، لكنها بقدر ما تركت في قلوبنا من ندوب، بقدر ما أسقطت أقنعة كثيرة كانت تخدعنا بالمصطلاحات الفضفاضة والوطنية الزائفة، وما كان لكل ذلك أن يحدث لولا غطرسة القوة و الانقلاب الذي أشعل حرب الداخل واستورد حرب الخارج وجعل من اليمن ساحة للصراعات الدولية والإقليمة.
20014، 15، 16، و 2017 .
حسابيا، نحن الآن في سنة رابعة حرب، يفترض أن نعود لليمن بشهادة ميلاد جديد، لا بشهادة وفاة، ولن تكون الأولى إلا في حال تخلى السلاليون عن أوهامهم، وتجرد المناطقيون من عصبيتهم، لن يكون إلا بتسلم سلاح الدولة والانسحاب من المدن، وبالتوبة النصوح إلى الله والشعب عن الحرب، كما لن تكون شهادة ميلاد اليمن، إلا مع إيمان مطلق بالجمهورية كقيمة عظمى ومقدسة لا مساس بها ولا تفريط.
يا هؤلاء..
نحن لا نريد الحرب، وأنتم لا تريدون السلام.
لقد فرضتم الحرب وخاضها الشعب مغلوبا لينتصر، وليس بوسع أحد إيقافها ما لم يبادر المتورطون بها إلى السلام. والسلام.
*من صفحة الكاتب على (فيس بوك)