في أواخر العام 1945 -بعد أن ألقت الحرب الكونية الثانية أوزارها النتنة على العقل والوجدان الجمعي للبشرية في عموم الأرض- أبدعَ واحد من أساطين الفكر والأدب في ايطاليا وأوروبا والعالم هو ألبير كامو رائعته ذائعة الصيت “كاليجولا”. (1)
في أواخر العام 1945 -بعد أن ألقت الحرب الكونية الثانية أوزارها النتنة على العقل والوجدان الجمعي للبشرية في عموم الأرض- أبدعَ واحد من أساطين الفكر والأدب في ايطاليا وأوروبا والعالم هو ألبير كامو رائعته ذائعة الصيت “كاليجولا”.
و كاليجولا (وهو امبراطور روماني، يُعَد أشهر طاغية في التاريخ، اسمه الحقيقي جايوس) صورة بالغة التكثيف للديكتاتورية في أبشع تجلياتها.. وقد أسفر عن موقفه -أو مذهبه- بقوله: لستُ أحب صُنَّاع الأدب، ولا أطيق أكاذيبهم، لأنهم يتكلمون حتى يكادوا لا يسمعون أنفسهم، ولو أنهم أستمعوا الى أنفسهم، لعرفوا أنهم لا شيء، ولن يتكلموا بعدها!
أن هذا الديكتاتور يعتقد بأن “لا ضرورة لأن يرتكب المرء ذنباً كي يستحق عقوبة الاعدام “! .. اذْ يكفي المرء أن يكون مذنباً لمجرد أنه من رعايا كاليجولا.
وليس من قبيل الحبكة الفنية في المنتوج الأدبي أن يضع ألبير كامو آخر جملة في روايته على لسان كاليجولا نفسه وهو يموت: “ما زلتُ حياً”.. أي أن موت الديكتاتور لا يعني بالضرورة نهاية الديكتاتورية!
(2)
للفكرة حق طبيعي في الحرية والتحليق عالياً كطيور البحر، والسباحة في نور الفضاء كبنات الحور العين.. ولها الحق في صونها من سوء التشريع وجور التقنين.
للفكرة -حبيسة ذهن كانت أو منطلقة، مفتوحة الأفق أو منغلقة- كامل الحق في التعبير عن نفسها، خارج اسار الشرنقة.
وصراع الأفكار -ولو في سياق صراع الأضداد- لا ينفي ذلك الحق، بل يثبته، ما دامه صراعاً سلمياً وديمقراطياً، يهدف إلى الحقيقة باعتبارها المطلب الأزلي للفكر الانساني.
على هذا الأساس، يمكننا الاعتقاد بضرورة أن تحمي الدولة وتشريعاتها والمجتمع ومؤسساته مختلف صنوف الفكر والرأي والتعبير من أية مخالب مكارثية وأنياب بوليسية، قائمة أو محتملة.
ان معاول النبي ابراهيم لم تهدم الوثنية، برغم هدمها أوثاناً.. لكن رسالة النبي محمد قد أزالتها كوعي قبل ازالتها كصخر.. لذا كانت أولى تعاليم هذه الرسالة هي “اقرأ”.. وليس اهدم.
(3)
لم يُكتَب تاريخ الثورات الكبرى من دون التنويه البارز بدور الأدب ومكانة الفن في مسار تلك الثورات وفي أسباب انتصارها.
كان فلاديمير ايلتش اوليانوف يُردّد دائماً أنه يتمنى لو أمتلكت الثورة البلشفية وعي ووجدان بوشكين، حتى لو خسرت نصف رجالها من الساسة والعسكريين. وقد تاهَ أغلب البلاشفة في دهاليز التاريخ وأضابيره، فيما ظل بوشكين نورساً من ضوء على مرّ الزمان.
وكان نابوليون بونابرت يعتقد أن “الله مع المدفعية الثقيلة” فيما لا حاجة عنده للشعر والرسم والموسيقى، الاَّ من باب الترفيه عن النفس في أوقات الفراغ. وحين نُفِيَ كسيراً ذليلاً إلى جزيرة نائية في قلب البحر الأبيض المتوسط، لم يستطع الاحتفاظ بسيفه وبندقيته وصولجانه الامبراطوري، لكنه أستعاض عنها ببعض الكتب واللوحات.
وكانت الفرقة الموسيقية ترافق الفرقة العسكرية في معارك الدفاع عن الثورة السبتمبرية ضد أعدائها على كل الجبهات. فكان عود علي الآنسي وقصيدة عثمان أبو ماهر وخطاب نعمان المسعودي يطغي على صوت دانات بوب دونارد.
وبعيداً عن الثورات، ينطبق الحال ذاته على الدول والشعوب والمجتمعات. فالمجتمع الذي يُذَلّ فيه الأدب ويُقهَر فيه الفن، يستحيل الزعم بتوافر دولة فيه، أو حضارة تصطفيه، أو تراث يحميه.
(4)
ثمة كتابة يكون الوأد مصيرها اثر ولادتها. بَيْدَ أنّ ديدن الكتابة الأصيلة أنها تظل عصيَة على النواميس الجاهلية، ومتمردة على فتاوى العار ومقاييس العورة.
نجد هذه الكتابة تعود إلى الضوء بعد أن تئد الظلام القسري والدفن القهري.. أو هي تنطلق كالفينيق من رماد الموت وحرائق الابادة.
فالكتابة سباحة حرة ضد تيار الرياح الباردة وأمواج الزبد وأصداف الشاطىء.
وما دون ذلك هو فعل قِصابة، لا فعل كتابة!
ويا للأسف، ساد القصَّابون، وباد -أو يكاد- الكُتَّاب الحقيقيون.
وقد بات هناك من الدخان أكثر مما هنالك من النار.
وأقسم بالذي أحكم الشفرة في الذرّة وأتقن النظام في المجرّة أن الكتابة اذا لم تشبه صاحبها فأنها “بنت حرام”!.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.