لعلّي لن أضيف شيئاً لو تحدثت عن الفضائل والمعاني السامية التي أفرزها العمل الدرامي التركي المتميز (قيامة أرطغرل) فقد كتب كثيرون حول هذا العمل وتناولوه من جوانبه المختلفة. لكنّ نظرة شاملة إلى بعض الأعمال الفنية التركية المتميزة تنبئ بأنها لم تكن عفوية بل موجهة بذكاء ومهارة لتؤكد رسالة المشروع الذي يتبناه النظام السياسي الحالي في تركيا، وتصوراته المعلنة وغير المعلنة، وأهدافه البعيدة، ولتساعد العامة على اعتناقها بقناعة بعد أن تنطبع في نفوسهم بفعل سطوة التأثير الذي تحدثه تلك الأعمال الدرامية، بداية بسلسلة (وادي الذئاب) ومروراً بـ (قيامة أرطغرل) ووصولاً إلى المسلسل الجديد الذي يروي سيرة السلطان عبد الحميد، حيث تتجلى فيه معانٍ في غاية الوضوح حول مفهوم الأمة الواحدة، ورسالية الإسلام، إضافة إلى قيم العدالة والشجاعة وتجرد الحاكم ونزاهته، وتأكيد مسألة التآمر الغربي على مشروع الخلافة الإسلامية، وغير ذلك.
ولا شك أن الرسالة التي تحملها هذه الأعمال الملحمية تتجاوز حاجة منتجيها لتقديم صورة أخرى عن الفن التركي مغايرة لما ألفه العرب في السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ أن غزت شاشاتهم المسلسلات المدبلجة، والتي كانت الفضائيات العربية تتخير أكثرها إثارة لتقدمها للمواطن العربي، فيما نجد هذه الشاشات اليوم تتجاهل الأعمال المذكورة أعلاه رغم أنها متابعة بشدة في الأوساط العربية عبر الإنترنت، فبعد أن غدا مفهوم (المسلسلات التركية) يُتّخذ مثلاً للابتذال والغثائية، نجده اليوم (داخل الأوساط العربية) يوشك أن يحمل مفهوماً مختلفاً بعد اشتهار عدد من الأعمال التاريخية المتميزة كأرطغرل والسلطان عبد الحميد.
وبالعودة إلى الرسالة العميقة التي تجتهد تلك الأعمال في إيصالها سنجد أنها ذكية وناجحة، فها هنا نمط من الفن الرسالي يتحرّى الجودة الفنية والإنتاجية والإخراجية أولاً ولا يعبّر عن نفسه بسطحية وجمود وركاكة، وهو ما يشكك في صحة الاعتقاد بأن الفن يفقد جماليته إذا كان رسالياً أو موجّها أو يدافع عن قيم سامية.
الحال أننا رُزقنا بأنظمة تناوئ التغيير لأنها تراه عدوّها الأول، وتجتهد في إغلاق كل منافذ استنهاض الأمة، ولا بدّ أن يفرز نهجها هذا رداءة على جميع المستويات، بل أن تتسرب الرداءة إلى المزاج العام، وتطبعه بسلبيتها وجمودها وتراجعها
وحين تجتمع لهذا الفن عناصر الجودة والبراعة وحسن تمرير رسائله وقيمه بمهارة وذكاء، من الطبيعي أن يفرز تأثيراً واسعاً وأن يثني جمهوره عن متابعة الفن الرديء والمبتذل، بل أن يصبح مساهماً أساسياً في صياغة وعي المجتمع وإكسابه مفاهيم جديدة حول القضايا التي يهتم منتجو العمل بأن يتبناها ويعتنقها، ولعل من المفيد الاستشهاد هنا بحادثة (الانقلاب الفاشل) التي وردت في مسلسل أرطغرل في جزئه الأول، ثم رأيناها تتجسد واقعاً بعد العرض بنحو شهرين في حادثة حقيقية في تركيا، ساهم الشعب خلالها في إفشال الانقلاب.
هذا يحيلنا إلى قضية أخرى وهي أن هذه الأعمال لم تنتَج لكي تروي تاريخاً مغيباً عن أذهان العرب والأتراك فحسب، بل لعل هذا يمثل آخر أولويات منتجيها، لكنها كُتبت بروح معاصرة، بدليل حشد المفاهيم والدلالات العصرية فيها وهو ما يتجلى عبر الحوارات والأحداث فيها، وباستحضار عديد الانتقادات حول عدم دقة أحداثها التاريخية، سنجد أنها انتقادات هامشية الجدوى، لأن التعرّف إلى التاريخ يُطلب من مراجعه ومصنفاته الموثقة، وليس من الأعمال الدرامية التي تتخذ التاريخ ظلالاً أو هامشاً لتقديم عمل فني محكم يلزمه احتشاد عناصر عديدة لإنجاحه، ومن بينها شطر من الخيال، وحسن عرض الأحداث وإدارة تطورها، والذي قد لا يتوافق بالضرورة مع تطورات الحدث التاريخي الأصلي.
يقول الروائي الراحل عبد الرحمن منيف حول الرواية التاريخية، وهو كلام ينطبق أيضاً على الدراما التاريخية: ” إن الرواية التاريخية تعتمد على مادة تاريخية لكنها ليست التاريخ ذاته، كما أنها ليست بديلاً عنه، فهي بمقدار اعتمادها على التاريخ فإنها لا تكرره، سواء كسياق زمني أو كوقائع. إنها تسير بموازاة التاريخ، تتقاطع معه، لكنها في النتيجة ليست هي التاريخ المتعارف عليه… إن الرواية التاريخية، في جانب منها، تعامل مع الأحداث والأزمنة والأشخاص الواقعيين الذين كانوا، لكن بمنظور جديد ومختلف، دون أن يعني ذلك تغيير الوقائع الفعلية.. أي أنها تختار من التاريخ واقعة أو مجموعة من الوقائع، تعتبرها ذات مغزى وأكثر أهمية.. كما أن من حق الروائي، إذا دعت الضرورة، أن يستعير من التاريخ والأسطورة والخيال ما يعتبره مفيداً لعمله، وأن يعيد توظيفه بحيث يخدم أغراضاً أو أهدافاً يراها أجدر من مجرّد تصوير هذه الشخصيات أو الحالات كما هي في الواقع فعلا”.
بقي أن نطرح بمرارة تساؤلاً متوقعاً وبديهياً حول الدراما العربية التي لم تقدّم، على مرّ تاريخها، لمواطنها عملاً فنياً ملحمياً ذا رسالة أو يخدم غايات سامية (ربما باستثناء فيلم الرسالة) رغم كثافة ما في تاريخ المسلمين العرب من أحداث كبرى وحاسمة وعظيمة تستحقّ أن تُعاد إلى دائرة الضوء لتكون ملهمة ومحفزة للتغيير. لكن الحال أننا رُزقنا بأنظمة تناوئ التغيير لأنها تراه عدوّها الأول، وتجتهد في إغلاق كل منافذ استنهاض الأمة، ولا بدّ أن يفرز نهجها هذا رداءة على جميع المستويات، بل أن تتسرب الرداءة إلى المزاج العام، وتطبعه بسلبيتها وجمودها وتراجعها .
نقلا عن مدونات الجزيرة