نجد في كثير من الدول العلمانية انفتاحا مع الدين وإن بدرجات متفاوتة، لا تشمل في جميع الظروف تقييد أي حرية دينية أو ممارسة للشعائر الدينية أو تمييز بين معتنقي مختلف الأديان في مناصب الدولة والحياة العامة، فهي من المبادئ المشتركة بين جميع الدول المصنفة كعلمانية. في الأسبوع الماضي، تداولت شبكات التواصل الاجتماعي صورة لرؤساء الاتحاد الأوروبي في الفاتيكان يتوسطهم البابا، وفيما ذهب الإسلاميون في تفسيرها وتحميلها بما لا تطيق من أن الغرب يحاربنا حربا دينية ويجمعهم قول واحد، وأن أوروبا لا زالت تخضع لبابا الفاتيكان ومن ثم فعلى الحكام العرب أن يجعلوا من شيوخ الدين مرجعا في كل خطواتهم، بينما ذهب العلمانيون العرب إلى تخفيف تلك الحمولة أكثر من اللازم وأن الصورة فلكلورية ولا تعني شيئا وأن أوروبا استغنت تماما عن الدين وخطابه في كل سياساتها.
ولفهم هذه الصورة وما تحمله من معانٍ علينا فهم العلمانية الأوروبية بشكل أدق وأوضح، ففي حين يرى الإسلاميون أن أوروبا مسيحية لا علمانية فيها، يرى خصومهم من العلمانيين أن أوروبا علمانية لا مسيحية فيها، ويسعى كل فريق لجمع القرائن لتأييد قوله، والحقيقة تكمن في التوسط بين الفريقين، ففي حين استطاعت أوروبا عبر صراعها الطويل أن تفصل الدين عن الدولة إلى حد ما، إلا أنها لم تستطع ولن تستطيع أن تفصله عن السياسة، ذلك لأن السياسة إفراز طبيعي لثقافة المجتمع والدين مكون أساسي في تلك الثقافة، وهذا يعود بنا إلى التفسير الدقيق للعلمانية، وهو فصل سلطة الكنيسة عن السلطة الدينية، وهذا يعني أن تلك الصورة يمكن حملها ببعض المعاني مع التخفيف عن معان أخرى، فأوروبا لا تزال ترى في المسيحية هوية جامعة لها، ولذا استمرت عرقلتها لانضمام تركيا لذلك النادي المسيحي، لكن أوروبا لا ترجع إلى البابا في سياساتها ولا يتدخل البابا في صنع سياساتها، فذلك تدخل في أصل فكرة العلمانية عندهم، ولفهم علاقة الدين بالدولة وبالسياسية نقف مع بعض تلك المظاهر والتي أراها تخفف حدة الإسلاميين من النظر إلى العلمانية على أنها تحارب الدين، وحدة الخطاب العلماني العربي في طرحه للعلمانية على أنها استبعاد كامل لمظاهر الدين، وهو طرح متطرف لكلا الطرفين والواقع العملي في أوروبا يكذب الفريقين.
أن من يرى في النماذج العلمانية المختلفة في العالم سيجد تداخل الدين بالسياسة يؤكد ما قلته من صعوبة فصل الدين عن السياسة تماما، ففي فرنسا مثلا وهي أكثر الدول صرامة في تطبيق العلمانية نجد أن جدول العطل الرسمية مقتبس بأغلبه من الأعياد الكاثوليكية، وكذلك تقدم الدولة من أموال دافعي الضرائب تمويلاً للمدارس الدينية، وفي الهند وهي أيضًا دولة تنصّ على العلمانية الكاملة، تقدّم الدولة سنويًا إعانات للحجاج المسلمين، وفي أستراليا وهي دولة علمانية رغم عدم ورود العبارة صراحة، يذكر في الدستور المادة السادسة عشر بعد المئة، على عدم تقييد أي حرية دينية أو ممارسة للشعائر الدينية أو تمييز بين معتنقي مختلف الأديان في مناصب الدولة والحياة العامة، ومع ذلك فإن الدستور ذاته يبدأ بعبارة “بتواضع، نعتمد على نعمة الله المتعالي”.
أما في أمريكا فقد ذكرت الموسوعة البريطانية أنّ الآباء المؤسسين للولايات المتحدة قد تأثروا عند كتابة دستور الولايات المتحدة بتعاليم الكتاب المقدس والقيم المسيحية، كما استطاع اليمين الانجيلي منذ سبعينات القرن الماضي السيطرة على الحزب الجمهوري وكان مسؤولاً عن تحديد رئيس الجمهورية منذ جيمي كارتر عام 1976 حتى جورج بوش الابن سنة 2000، وكذلك لا زال استخدام الخطاب الديني في الوثائق الدستورية والشعار الوطني ومراسيم تنصيب رئيس الجمهورية (كما شاهدنا مؤخرا مع ترامب) وتأييد الدولة للعطلات الدينية.
وأما إنجلترا فلا تزال الكنيسة الإنجليكية هي الدين الرسمي للدولة، ولا زالت الملكة تقوم بتعيين الأساقفة، وفي السويد الدين لا تزال الكنيسة اللوثرية هي الدين الرسمي للدولة والملك هو من يعين رئيس الكنيسة والأساقفة، وفي إيطاليا لا زالت الكاثوليكية هي الدين الرسمي للبلاد.
بل يذهب “غي هارشير” في كتابه “العلمانية” إلى أبعد من ذلك فيقول: “يشكل الدين في إيرلندا وفي اليونان لحمة الهوية الوطنية في مواجهة عدو إمبريالي، الكاثوليكية ضد بريطانيا العظمى البروتستانتية، والأرثوذكسية اليونانية ضد الإسلام وتركيا”.
وهكذا سنجد في كثير من الدول العلمانية انفتاحا مع الدين وإن بدرجات متفاوتة، لا تشمل في جميع الظروف تقييد أي حرية دينية أو ممارسة للشعائر الدينية أو تمييز بين معتنقي مختلف الأديان في مناصب الدولة والحياة العامة، فهي من المبادئ المشتركة بين جميع الدول المصنفة كعلمانية.
إن ما يجب أن يفهمه الفريقان (إسلاميون وعلمانيون) في مجتمعاتنا العربية هو الآتي:
أن خلاصة وجوهر فكرة العلمانية هي العلاقة المتصالحة بين الدين والدولة والتي تقوم على أساس الحوار والتفاوض للوصول إلى صيغة مناسبة تحقق التعايش بين أبناء الوطن الواحد على أساس الحرية والمواطنة المتساوية، وليست العلمانية صيغة محددة وجاهزة تطبق في كل بلد، وإنما تتعدد بحسب التكوين الثقافي لكل مجتمع، وبحسب ظروفه ومشكلاته السياسية والاقتصادية.
أن علمانية الدولة تحقق التدين الصادق لا التدين المصحوب بالنفاق وذلك من خلال حرية المعتقد، فمؤسسات الدولة حين تتبنى مذهبا تفرضه عبر مؤسساتها فإنها سترسخ للنفاق، وسيكون قمعها للمعارضين باعتبارهم مخالفين للدين لا باعتبارهم مخالفين سياسيين، فأحكام الدين تحتاج لخضوع ديني لا خضوع سياسي، وتحتاج لنية خالصة حرة تختار ما تؤمن به اختيارا لا فرضا بقوة السياسة، وأي إرغام للمجتمع على مذهب معين لن تكون تلك النية خالصة للإيمان به.
أننا احتجنا للقول بالعلمانية اليوم في مجتمعاتنا العربية لثلاثة أسباب رئيسية، أوها بسبب ظهور مصطلح الدولة الإسلامية عند جماعات دينية متشددة بصورة مخالفة لما كان عليه في التاريخ الإسلامي تأثرا بالنموذج الأوروبي القادم مع الاستعمار، ذلك النموذج الذي يسعى لتشكيل المجتمع بأدوات القانون والسياسة، وثانيها لظهور الصراع الطائفي السياسي في مجتمعاتنا الإسلامية في العقود الأخيرة على أشده، وثالثها لوجود بعض السلطة للجماعات الدينية والتي تحاول -عبر مؤسساتها الدينية- فرض رؤاها على السلطة السياسية المنتخبة من الشعب بطريقة ديمقراطية.
إن العلمانية كإجراء سياسي ستختص بالدولة فقط، أما المجتمع فسيظل للدين دور وأثر على السياسات العامة للمجتمع شئنا أم أبينا، وهناك مجتمعات إسلامية ودول إسلامية حافظت على إسلامية المجتمع رغم علمانية الدولة كتركيا وأندونيسيا وماليزيا والسنغال.
أن العلمانية بهذه الصورة صفة للدولة لا للفرد، فهناك دولة علمانية لا فرد علماني، أما الفرد فيصنف بالعقيدة التي يؤمن بها.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.