في مثل هذا الشهر ، منذ عشر سنين ، رحل عن عالمنا كائن – بل كيان – شعري ضخم .. تُزقزق في عينيه عصافير خضراء وجداول ضاحكة وسنابل مُثقَلة. في مثل هذا الشهر ، منذ عشر سنين ، رحل عن عالمنا كائن – بل كيان – شعري ضخم .. تُزقزق في عينيه عصافير خضراء وجداول ضاحكة وسنابل مُثقَلة.
ترى جسمه البدين فتتحاشى مجرد الحديث معه، ظنَّاً منك أن “كلمة” من يده ستجعلك تلعن ساعة ولادتك!.. وتسمعه، تقرأ شعره، تُجالسه وتُحاوره، فتجد نفسك تصب عليه كل ما يحتويه ابريق القلب من ماء الحب وخمرة الاطمئنان.
انه محمد حسين هيثم .. ذلك الشاعر الذي يجعلك ترى الشعر نبعاً يترقرق في خطوط يديك، لحظة قراءتك احدى قصائده ، لاسيما تلك التي يذرفها ذات حلم موجع:
“… وفي النُّزلِ ذاكَ ستبكي كثيراً
لأنَ صباحاً قديماً
ترجَّلَ بين يديك
وألقى بلاداً عليك”.
…
“.. وانتخبتَ حذاءً
يضيقُ على وطنٍ ناحلٍ
وبدَّلْتني بالمرايا
أيُّهذا الذي يتعالى”.
وكان شعر من هذا الصنف سبباً في مطاردة هيثم !
يومها ، أضطر الشاعر الى النزوح من جنوب وطنه الى شماله .. ويومها ، فرَّ من الوطن الى وجع استثنائي ينتصب بين الوطن وشيء يشبه الوطن .
ويومها ، وجدناه يرتجل نهاراً ما لجنازته ، وألفيناه ينتخب يوم الاثنين:
” ليسَ لأنَّ الأحدَ طفلٌ مائيُّ الخطوات
أو أنَّ الثلاثاءَ بلا عينين
لكنَّ الاثنينَ هو الاثنين
قبرٌ مرتجلٌ..
وصباحٌ منكسرُ الساقين”.
ويومها ، كان محمد “يُشيّع بين الكنايات عشرَ حروبٍ وعشرَ سِلالٍ من الأصدقاء”.. ولكن.. “كم ستبكي؟.. كم ستذرفُ من بلادٍ يا محمد؟”.
كان “قطار الجنوب” يُدحرِج أحلام الشاعر “الغريب” بين عاصمتين في وطن مشطور:
” لمقبرةٍ أودعَتْهُ السريرةَ والسرَّ
في بلادٍ تسيرُ الهوينى..
وتبتاعُ أقمارها في التماع الجنابي”.
ان الانسان لا يدرك المعنى الحقيقي لمفردات مثل: القمع ، القهر ، الارهاب.. الاَّ في اللحظة التي تهوي أسلحة هذه المفردات على روح الشاعر.
وحين تألّم الشاعر في صمت -ولكنه صمت صارخ- كان متهماً بالتآمر. وحين أندلق من قلبه حزن فصيح أتهموه بالخيانة. وقبل أن تتراكم مصفوفة الاتهامات، كان الشاعر ينجو بدفتره وحلمه وروحه من خناجرهم ، لكن اسمه وقصيدته ظلا مشنوقين في الـ Black List .
وظلت المنصورة تسكن الشاعر “مثل نسرينةٍ أنفلتتْ وخبّأتْ كنوزها في قصعة الغبار”.. وظل “طفل المنصورة القديم يجيؤها داوياً كفضيحة وكالحاً كنبي”.
سأل:
– ” ما الذي يجري في الجبهة يا لوركا؟
فجاءته الاجابة:
– نزلتْ خمسُ قبائل بالمايوهات الى الفودكا”!
فغضبنا، وأعلنّا الحرب عليه.. ووجدنا أنفسنا -فجأة- نحارب طواحين الهواء في داخلنا:
“لأنّ دون كيشوت
سكرتيرٌ حزبي بمشروع الملح
ودوليسينيا آمرةُ سَرِيَّةٍ
بمدرسة النجمة الحمراء”.
آهٍ يا محمد، هو الوطن الآن “يُرقّع بكارته” ويمضي فينا.. هو الزمن الآن يُنفّض عنا ملوحتنا.. وهي المنصورة الآن ” سترى انَّا كنا ما كنّاه .. لأن الوردةَ وطنٌ ينهض في الروح”.
رحمة الله تغشاك يا صديقي.. يا رفيقي .. يا محمد.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.