الرواية العراقية بين حرائق الداخل والخارج
حرضت مقالة الروائي محمد حياوي المنشورة في “العرب” يوم 5-3-2017 المعنونة بـ”الرواية العراقية من داخل وخارج” قراء كثيرين على البحث عن ملابسات المشهد الروائي العراقي، فالتواصل بين الروائيين العراقيين، رغم ظروف المهجر، كان موجودا، إذ شاعت كثيرا مكاتب
يمن مونيتور/ العرب اللندنية
حرضت مقالة الروائي محمد حياوي المنشورة
في “العرب” يوم 5-3-2017 المعنونة بـ”الرواية العراقية من داخل وخارج” قراء كثيرين
على البحث عن ملابسات المشهد الروائي العراقي، فالتواصل بين الروائيين العراقيين، رغم
ظروف المهجر، كان موجودا، إذ شاعت كثيرا مكاتب استنساخ الكتب العراقية الممنوعة والمُهرَّبة،
بما فيها الروايات. وأحسب أنّ وضع توصيف موضوعي لهذا التواصل، أو انقطاعه، ضروري في
ضوء الحاجة إلى تأمين سياق نقدي يقوم على فحص ومراجعة يوميات الرواية العراقية، وتسليط
الضوء على هوية منجزها في الداخل والخارج.
اشتراطات السرد
رغم أن انفتاح روائيي المهجر “على الثقافات
وتعلمهم اللغات المختلفة، وسعيهم لتوظيف علاقاتهم من أجل ترجمة أعمالهم، وتحقيق مساحات
أوسع لقراءتها، حُرم روائيو الداخل من هذه الامتيازات المهمة” كما يقول حياوي، فالكثير
من رواياته ظلت مسكونة بـ”النوستالجيا” العراقية، وباستعادة الأمكنة والذاكرة، وهذا
لا يعيب، بقدر ما يشير إلى وجود تنافذ نفسي وتواشج بين الحالتين، فضلا عن أنّ التعرّف
على هذه الروايات لم يكن بعيدا، فقد اطّلعنا على أغلبها عبر طرق الاستنساخ أو التهريب،
وهي لعبة ظل يمارسها المثقفون بمهارة وبغواية عالية، وحتى بعد الاحتلال الأميركي للعراق.
يقول الناقد علي حداد “لا يكاد يكون هناك
أدب لبلد ما تكرس في حدّ جغرافية واحدة، ولم تشتغل فيه تلك الثنائية العتيدة التي تتوزعه
بين داخل/ خارج، حدود هويته الوطنية أو القومية. فما دام المبدع قادرا على أن يصنع
لوجوده، أو تجبره ظروفه وأقداره، الملاذ المكاني الذي يسكن إليه، فإن ذلك المكان سيشكّل
فاعلية تأثير مطمئنة، أو مقلقة، تفرض مؤثراتها على منجزه الأدبي”.
ويضيف حداد أن المشاعر تتأجج في ذات المبدع
الذي يكتب الشعر، مقيما خارج وطنه، وترتقي مؤشرات حساسيته، فتنفعل، وتستثمر ما كان
لها في “الداخل” من حميمية استعادة للذكريات والوجوه والأماكن، كنوع من تخدير لحظة
التوق العاطفي الراهن فيها، حتى لتبدو عنده أكثر إثارة مما هي عند من يعايش “الداخل”،
ويكتوي بوقائعه. أما “السارد”، مغتربا أو مقيما، فلا بد لاشتغالاته أن تعبر عتبة ذلك
التمثّل الشعوري المنفعل، إلى حيث التمكّن المتأمل لما كان وما هو كائن، بوعي وبصيرة،
وإعادة إنتاج ما بين يديه وفق اشتراطات السرد ومقوماته، وهي “تكيّفات معقلنة”، يشغلها
التشكّل السردي المخبر عن قدراته بهيأة وقائع وشخصيات، ومقومات حوار ووصف، ووجهة نظر
ساردة.
الروائي وارد بدر السالم يقول عن استهلاكية
هذا التوصيف “باتت قصة الداخل والخارج في الأدب العراقي مستهلكة إلى حد بعيد، وصارت
أشبه بـ‘سوالف‘ العجائز اللواتي يجدن الكثير من الفراغ واليأس مع تقدم العمر ووتيرة
الحياة ونضوبها، ففي أوقات معلومة حاول البعض من الطرفين أن يجد له صوتا خارجا عن سرب
الإبداع ليقدم الدليل على أنه مَن له الأولوية في المؤشرات النقدية، وأنه حامل قصبة
الرواية أو القصيدة، وفي المرات كلها يجد القارئ نفسه أمام صراع ساذج لم يستوعب طرفاه
بعد الكثير من متغيرات الحياة الأدبية والثقافية”.
وارد بدر سالم وحميد الربيعي: ثمة رواية
عراقية تُكتب، تختلف مشاربها بين كاتب وآخر
ويرى السالم أن “الخارجيين” ينطلقون من
رؤى سياسية في الأغلب الأعم، وهي رؤى قاصرة، و”الداخليون” يرون أن استحقاقاتهم الأدبية
أكثر فصاحة من غيرهم بسبب كونهم عاشوا رعب الداخل وتفصيلاته الكثيرة، ما ظهر منها وما
بطن. ومثلما يرى الطرف الأول أن الخارج المنفتح أعطاهم ما يجب أن يأخذوه من لغة ثانية،
وثقافات متعددة، وحرية أوسع في التعبير والكتابة والابتكار، فإن الطرف الثاني يرى أن
الضغط السياسي السابق، والحالي أيضا، قد قوّض إمكانياته وطاقاته الإبداعية. ورغم ذلك
تمثّل الحالة الاجتماعية والسياسية بعد 2003 بطريقة سردية وشعرية فيها تثوير لتلك الطاقات
المحبوسة، واشتغالات جديدة على الفن الأدبي بمعطياته كافة.
وعن إشكالية هذه الظاهرة يجيب الروائي خضير
فليح الزيدي قائلا “لقد تزامن هذا الاستطلاع مع موجة الصخب المصاحبة للأسئلة النقدية
عبر شبكة التواصل، والتي نسف خلالها أحد النقاد المنجز الروائي العراقي عبر قرن من
الزمن. تضايق بعض الكتاب من موجة الجدل المقصودة، لكني أعتبرها ظاهرة صحية ستفرز حتما
حراكا نقديا وتنظيرا يصحح مسار تاريخ الرواية العراقية سواء أكانت كلاسيكية أم جديدة”.
ويتابع الزيدي بقوله “لا أحد ينكر مكانة
الرواية العراقية وعصر النهضة الذي ترفل فيه، وسط هذا الخراب العام في الواقع العراقي
المحيط، وتلك ثنائية ملفة للنظر؛ فكلما تردّى الواقع بؤسا وظلامية انتعشت الرواية فنا
ومواكبة، في غياب شبه مطلق للحقل النقدي الذي تخلف عن المواكبة، ومردّ ذلك أن الجامعات
العراقية هي المصدر الرئيس للمتابعة النقدية، لكن المشكلة مستعصية لأن معظم حملة الشهادات
العليا في حقل النقد لا يستطيعون إدراك مآلات توجه النهضة الروائية، والمناهج والنظريات
التي اطلعوا عليهاغير صالحة أصلا لهضم الإنتاج الروائي العراقي المعاصر، فالمساطر التي
يحاولون تطبيقها على مقاسات الفن الروائي باتت لا تنسجم مع التدفق السردي الحديث”.
استثناءات طفيفة
تصنيفات متعسفة
ويثير الناقد حسن سرحان جدلا في أطروحاته،
وفي قراءاته للرواية العراقية قائلا “عند تعلق الأمور بالرواية العراقية تبدو تصنيفات
الداخل/ الخارج مجانية ومتعسفة وغير حقيقية ما دامت رواية الخارج بلا سند إبداعي كبير،
من جهة، ودون أساس علمي بحثي حقيقي يدعمها ويؤصل لها ويجعل منها أمرا واقعا، من جهة
أخرى. فلم يواصل المنفى بلورة روايته الخاصة به المجسِّدة لثيماته التي ميزته في تسعينات
القرن الماضي عن رواية الداخل، ناهيك عن أنّ روائيي المنفى لم يقترحوا تقنيات تخالف
تلك التي ألفوا استخدامها قبل مغادرتهم البلد”.
ويتابع سرحان “المحبط في الأمر أن المنفى
لم يقدم للكتّاب العراقيين أفكارا جديدة وأسلوب كتابة جديدا، ولم يغير كثيرا من رؤيتهم
للعالم وتوجهاتهم الفكرية الأولى. السبب في ذلك يكمن في عدم قدرتهم، ما عدا حالات خاصة
جدا، على التحرر من ثقافتهم السابقة، وعتق أنفسهم من عُقد الماضي النفسية والتاريخية
والسياسية”.
لكن سرحان لا ينفي أن هناك استثناءات طفيفة
تمثلها بعض الروايات التي قطعت صلتها بالماضي، فنجح كتابها في إنتاج نصوص مختلفة كالكاتب
برهان شاوي في رواياته التأملية الصوفية ذات الطابع الميتافيزيقي، ورواياته الحسية
التي تتحرش بالمقدس والمحرم. كان المنفى سيتحول الى مصدر إثراء كبير وتجديد غير محدود
للرواية العراقية لو أن كتّابه واظبوا على تنويع نماذج شخصياتهم وموضوعاتهم وتقنياتهم،
ولو أنهم غادروا المنطقة الوسطى التي يعيشون فيها، ونقلوا لنا بشكل أكبر تجاربهم في
المهجر وتصوراتهم عن المجتمعات التي انتقلوا إليها. كان بإمكانهم، ما داموا مصرين على
ذلك، أن يعيدوا، وهذا أقل الطموح، سرد الواقع العراقي وفق رؤيتهم المستقلة كمبدعين
يسكنون خارج الوطن.
يضعنا الروائي حميد الربيعي أمام معطى آخر
قائلا “ليس ثمة ثقافة للخارج وأخرى للداخل، على أرض الواقع ثمة رواية عراقية تُكتب،
تختلف مشاربها بين كاتب وآخر، اعتمادا على تنوع مصادر المعرفة ونضج التجربة الذاتية،
بحيث تتجسد فيها الخبرة الحياتية، واستيعاب حركة المجتمع، في نموه أو تشظيه، وهي بالضرورة
تعكس حال الواقع العراقي، بأبعاده وبنيته المجتمعية. الرواية العراقية قصيرة العمر
عند تمثلها لمدارس السرد الحديث وانفتاحها على الموضوعات الأكثر جدية في الحياة العربية”.
حسن سرحان وخضير فليح الزيدي: المنفى لم
يقدم للكتاب العراقيين أفكارا جديدة وأسلوب كتابة جديدا
في المقابل يرى الربيعي أنه ليس لدينا حركة
نقدية مواكبة ومتطورة تستوعب كل ما يكتب في السرد، أو تستطيع تصنيف ورسم ملامح التجربة
التي وصلت إليها الرواية العراقية، فنحن أصلا لم نكن ساحة نقدية، بمعنى التأصيل والتنظير،
بقدر ما كانت كتابات الأوائل تشير إلى ما تنتجه هذه الساحة من إبداعات. ويحاول الجيل
الحالي تأطير مساحته النقدية باتجاه العمق وقراءة المنتج، بيد أنها في مراحلها الأولى.
ويحاول الروائي والناقد علي لفتة سعيد أن
يضعنا أمام تصوّر نظري عن هذه الإشكالية قائلا “لا يمكن لأحد أن ينكر تأثير عملية الاغتراب
عن البلد بالنسبة إلى الروائي المغترب عن الحركة الإنتاجية وإبداعها، لأنه أمام مساحات
أوسع من المعرفة واكتسابها، ومن التأمل والاغتراف منه، ومن الاحتكاك وصقل الموهبة.
هذا الأمر لا مفر من التأكيد عليه، لأنه حقيقة مُسلّم بها من ناحية الاطلاع على تجارب
العالم من خلال اللغة الأم، إذا ما عرفنا أن الترجمة قد تكون خائنة في إيصال أهداف
العمل إلى الأديب الذي ظل في بلده ولم يغترب”.
ويتساءل علي لفته “هل يمكن لنا القول إن
النتاج الروائي للأديب العراقي المغترب سيكو