تحدثت في الحلقة السابقة عن شروط صحة الحديث التي قال بها المحدثون، ثم توقفت عند الشرط الأول وهو اتصال السند، ورأينا كيف أن ذاك الشرط كان صعب التحقق باختراق مشكلة التدليس له، واليوم سأتوقف عند شرط آخر من شروط السند لننظر هل استطاع المحدثون تحقيقه بالشكل المطلوب أم كان صعب التحقق وسهل الاختراق. تحدثت في الحلقة السابقة عن شروط صحة الحديث التي قال بها المحدثون، ثم توقفت عند الشرط الأول وهو اتصال السند، ورأينا كيف أن ذاك الشرط كان صعب التحقق باختراق مشكلة التدليس له، واليوم سأتوقف عند شرط آخر من شروط السند لننظر هل استطاع المحدثون تحقيقه بالشكل المطلوب أم كان صعب التحقق وسهل الاختراق.
من الشروط التي وضعها المحدثون لصحة الحديث شرطي العدالة والضبط عند كل رواة الحديث، وقد نشأ لأجل هذين الشرطين ما سموه “علم الرجال” أو “علم الجرح والتعديل”.
الشرط الثاني: العدالة ويقصدون بها مَلَكة تحمل المرءَ على ملازمة التقوى، ومجانبة الفِسْق، وخوارم المروءة. وتعرف العدالة بأمرين:
1- الاستفاضة والشهرة: كأن يشتهرَ الراوي بطلب العِلم، والاجتهاد فيه، مع الأمانة والثِّقة، بحيث يشيع الثناء عليه.
2- تنصيص أحد العلماء على عدالته: ويكفي تعديلُ الإمام الواحد على القول الراجح، قياسًا على قَبول خبر الثِّقة عند تفرده، بشرط أن يكون هذا العالِم غير متساهل في التعديل، أو التوثيق، وألاَّ يعارض توثيقَه قولُ إمام آخر؛ فعندئذٍ يُطلب الترجيح بضوابط التعارض.
وهذا الشرط عليه عدة ملاحظات:
أولا: مهما تم الاحتياط والتدقيق والبحث في أحوال الرجال فإن ذلك لن يتجاوز الظاهر من أحوالهم، لأن الباطن لا يعلمه إلا الله، ولما كان الباطن غيبيا فإن سهولة ادعاء الإيمان والعيش بنفاق يمكن أن يتحقق في أي عصر من العصور، خاصة وقد أشارت سورة التوبة إلى أن هناك منافقين مردوا على النفاق في زمن النبي ولم يكن النبي عليه السلام يعلمهم، (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ (101التوبة ) وهؤلاء فئة من المنافقين غير أولئك الذين قال الله عنهم لنبيه أنه ربما يعرفهم في لحن القول، أو من بعض أفعالهم، (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) (محمد30) وإذا كان جيل الصحابة نفسه قد تخلله ذلك الاختراق فكيف بمن بعدهم، خاصة وأن النفاق يظهر في أحوال القوة للمسلمين، وهو ما كان عليه المسلمون خلال القرون الثلاثة بعد زمن النبي عليه السلام، ولما كانت الرواية في كتب الحديث آحادية فبالإمكان أن يكون ذلك الراوي من أولئك الذين وصفتهم الآية بالنفاق الذي لا يعلم، والذي تمرس أصحابه عليه لدرجة قوية يصعب على المؤمن أن يكتشفهم.
وأما قولهم بأن كل الصحابة عدول فهذا حكم بالجملة على جيل الصحابة بأكمله، وواضح أن ذلك الحكم جاء كردة فعل على من هاجم بعض الصحابة أو حكم على فريق منهم بالردة كما قالت الشيعة الإمامية، وكلا المنهجين برأيي كان مغاليا، والصحيح برأيي أن الصحابة ينطبق عليهم ما ينطبق على غيرهم، وهذا هو منهج القرآن ذاته، وحين حكم القرآن على المجتمع النبوي بالخيرية فإن ذلك الحكم كان للغالب على المجتمع لا حكمٌ لكل فرد فيه، إذ سنجد آيات أخرى صنفت ذلك المجتمع النبوي فقالت: (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ) (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) بل ذهبت الآيات إلى أبعد حين ذكرت أن هناك منافقين لا يعلمهم النبي ذاته كما بينت من قبل.
ثانيا: اختلاف علماء الجرح والتعديل في تعديل الرجال، وهو اختلاف كبير له أسبابه وبواعثه، فقد تجد في الرجل القول وعكسه.
يقول أحمد أمين في ضحى الإسلام : ” إن أحكام الناس على الرجال تختلف كل الاختلاف فبعض يوثق رجلاً ، وآخر يكذبه ، والبواعث النفسية على ذلك لا حصر لها ، ثم كان المحدثون أنفسهم يختلفون في قواعد التجريح والتعديل ، فبعضهم يرفض حديث المبتدع مطلقاً كالخارجي والمعتزلي، وبعضهم يقبل روايته في الأحاديث التي لا تتصل ببدعته .”
ثالثا: تأثير الصراع السياسي والمذهبي على هذا الشرط، إذ صار الاختلاف السياسي أو المذهبي فاعلا في ميزان الجرح والتعديل، رغم أن من يتبع مذهبا معينا مخالفا قد لا يكون كاذبا، وقد يكون أكثر التزاما بالصدق من أشخاص قد يوافقونهم في المذهب، فلا يلزم من تمذهبه بمذهب ما أن يكون كاذبا.
يقول أحمد أمين في فجر الإسلام ” وكان للاختلاف المذهبي أثر في التعديل والتجريح ، فأهل السنة يجرحون كثيراً من الشيعة ، حتى إنهم نصوا على أنه لا يصح أن يروى عن علي ما رواه أصحابه وشيعته ، إنما يصح أن يروى ما رواه عنه أصحاب عبد الله بن مسعود ، وكذلك كان الشيعة من أهل السنة فكثير منهم لا يثق إلا بما رواه الشيعة عن أهل البيت وهكذا ، ونشأ عن هذا أن من يُعَدِّله قوم قد يجرحه آخرون”.
وبرغم أن أهل السنة قد استبعدوا رواية المتهم بالتشيع لأنه –بحسب قولهم- مبتدع وقد يكذب لصالح مذهبه، إلا إن هذا الاحتياط قد يختل ويخرق إذا اتخذ ذلك المتشيع مفهوم “التقية”، وهو المفهوم المشهور عند الشيعة الإثنى عشرية، والتي تجعله موافقا لهم في ظاهره ومخالفا لهم في باطنه، ولذا قد يروي ما يؤيد مذهبه من الأحاديث، وهذا يعني اختراق شرط العدالة كما حددوه.
ومن الغريب أن أماما كأبي حنيفة لم يخرج له البخاري ومسلم شيئا من الحديث رغم أنهما أدركا صغار أصحاب أصحابه وأخذا عنهم، ولم يخرجا من حديث الشافعي شيئاً، مع أنهما لقيا بعض أصحابه، كما لم يخرج البخاري من حديث أحمد إلا حديثين أحدهما تعليقاً والآخر نازلاً بواسطة، مع أنه أدركه ولازمه، كذلك لم يخرج مسلم في صحيحه عن أحمد الا قدر ثلاثين حديثاً، ولا أخرج أحمد في مسنده عن مالك عن نافع بطريق الشافعي – وهو أصح الطرق أو من أصحها عند المحدثين- إلا أربعة أحاديث، وما رواه أحمد عن الشافعي بغير هذا الطريق لا يبلغ عشرين حديثاً مع أنه جالس الشافعي وسمع موطأ مالك منه وعد من رواة مذهبه القديم. وقد علل ذلك من جاء بعد البخاري ومسلم -كالكوثري- بتعليلات لم أقتنع بها وأرى أن اختلال ميزان الجرح والتعديل ذاته هو السبب، ومن اختلاله أيضا ما وُجد عند البخاري ومسلم من روايات -وإن كانت قليلة- عن أشخاص غير ثقات وضعفاء ومتروكين!! وهذا يعني أن منظومة الجرح والتعديل عند أهم محققين للحديث لم تكن بتلك الدقة فكيف بغيرهما.
رابعا: صعوبة تحقق البحث عن عدالة الرجال في كل طبقات سلسلة السند، إذ قد يستطيع أهل الجرح والتعديل الذين دونوا ذلك العلم أن يقتربوا في معرفة من لازموه وعاشوا معه في الطبقة الخامسة في السلسلة، أما إذا أتوا على من قبله في الطبقة الرابعة فإنهم سيسألون عنه من بقي من الأحياء، وهنا نبتعد درجة في الدقة باتجاه الظن، ثم إذا أتوا على الطبقة الثالثة فإن المعلومات المتوفرة عنهم ستكون أقل، وبهذا نبتعد درجة ثانية عن الدقة باتجاه الوهم، ثم إذا أتوا على الطبقة الثانية فإنها ستكون أبعد عنهم، وسنبتعد درجة ثالثة عن الدقة، وسيكون الحكم على الرجال من خلال ما قيل عنهم لا من خلال معايشتهم، وحتى ما قيل عنهم فإنه سيكون أقل توثيقا ودقة كلما ابتعدنا عن زمنهم، أما الحديث عن الطبقة الأولى في السلسلة وهم الصحابة فقد اكتفوا بذلك الحكم العام بأنهم كلهم عدول ليخرجوا من الحرج، وقد رأينا كم كان منهجهم مخالفا للقرآن وللمنطق.
باختراق هذا الشرط يمكن أن يدخل الرواية كثير من الدسِّ والتزوير والكذب والوضع، وهو ما يجعلنا نتعامل مع تلك الروايات بمنهجية تختلف عن تلك المنهجية التي ترى قوة تلك الشروط وعدم اختلالها.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.