ذهبت إلى المدرسة القريبة من منزلنا. سأقوم بتدريس مادة الأدب لطلاب المرحلة الثانوية. جهزت كل شيء تجنبًا لإحراج سؤال من أي طالب وغد. حفظت كل شيء عن المدرسة الرومانسية وجمعت كل ما أعرفه عن أبرز روادها، وذهبت.
ذهبت إلى المدرسة القريبة من منزلنا. سأقوم بتدريس مادة الأدب لطلاب المرحلة الثانوية. جهزت كل شيء تجنبًا لإحراج سؤال من أي طالب وغد. حفظت كل شيء عن المدرسة الرومانسية وجمعت كل ما أعرفه عن أبرز روادها، وذهبت.
المعلمون بلا رواتب للشهر السادس، لذا عدد الحاضرين لم يتجاوز عدد الأصابع. هذا ما جعلني أفكر برد الجميل للمدرسة التي تعلمت فيها ولأستشعر بيت أحمد شوقي، أحد رواد مدرسة الإحياء الكلاسيكية كما ينبغي أن أقول للطلاب:
قم للمعلم وفه التبجيلا.
غير أني وجدت طلاب الصف الثالث الابتدائي قائمون عند الباب بضجيج طفولتهم ينظرون إليّ بغرابة بلا تبجيل ولا احترام.
“شوفوا الاستاذ سعماهو”.
المدرسة بلا فصول كافية، وفصولها الموجودة في حالة يرثى لها.. لقد درست تحت شجرة الدوم، وشجرة القرض. وهؤلاء مثلي. أفضل تطور لهم في عهد الرئيس المخلوع، كان أن انتقلوا إلى “ديمة” بطرف أحد الوديان، وقد تهدمت الآن.
سمعت قصة وصول أول أستاذ مصري إلى هذه المدرسة من أبي. قال بأن المصري وصل إلى المدرسة ولم يكن هناك مبنى ليسكنه غير غرفة بلا حمام.. سألنا المصري: اين يقضي حاجته؟ فأخرجه أحد الأهالي وأشر له ناحية وادٍ كثيف الأشجار: هذي كلها حمام.. استخدمها براحتك.
قدم بعدها أستاذ من السودان وآخرون من مصر وتم بناء سكن للأساتذة، وبعد فترة لم يعد يسكنه أحد غير المنتفعين به من غير المعلمين.
أما الآن فتقطنه عائلة نزحت من الحرب.
الحرب حولت كل البلاد إلى “حمام دم” استخدمتها المليشيا براحتها.
الحرب شردت المعلمين.
أستاذ عاد إلى “توقيص الأحجار”، أستاذ يعمل في التلييس، ورأيت أستاذَا يبيع القات، وآخر أعادته الحرب إلى أيام غربته القديمة ليبني “البلك”. وأستاذ اقتنص الفرصة لينام.
الموجودون قلة ووضع المدرسة بائس.
طلاب الصف الثالث الابتدائي يطلبون أن أدرسهم.. طلاب الأول الثانوي يمدون إليّ بكتاب القراءة لندرس تحت شجرة الدوم، طلاب الثالث الاعدادي محتلقين حول بائع الآيسكريم يعلمهم اتيكيت لعق الثلج المصبوغ.
قمت بتدريس حصة وأحبطت، ولم أستطع العودة في اليوم التالي.
لا فصول.. لا أساتذة.
من مدة ونحن نشكو من وضعها البائس، الإدارة ترجع الفشل إلى الأساتذة وبعض الأساتذة إلى الإدارة وبعضهم إلى ولاة الأمور، والكثير إلى الطلاب. ويتفق الجميع على أن المبنى هو السبب. زادت الحرب من مأساة مدرستنا مأساة.
دار في خلدي: قد يخرج في إحدى الأيام من يكتب مثل “هولدن كولفيلد” بطل “الحارس في حقل الشوفان” لسالينجر. في السادسة عشرة غاضب ضد مجتمع بكامله، مع أنه لم يعش الحرب. طالب مدرسة يصور الحياة في نيويورك، يكره المدرسة بسبب الجميع، لا يستنكف أن يستخدم شتائم الشوارع بين الفينة والأخرى: “أولاد الزواني”. أكثر ما يتكرر في الرواية.
التعليم يا سادة. المدرسة يا عالم قبل أن يخرج منا “كولفيلد”.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.