كانت منطقتي ممرًا ليليًا للمتحاربين في الثمانينيات. الحرب الأهلية المحدودة التي سميت فيما بعد “حرب المناطق الوسطى”.
كانت منطقتي ممرًا ليليًا للمتحاربين في الثمانينيات. الحرب الأهلية المحدودة التي سميت فيما بعد “حرب المناطق الوسطى”.
المحافظون يحاربون جبهة التخريب “كما سموها”
أو الجبهة الوطنية التابعة لليسار الاشتراكي، تحارب الرجعية. كما يرون.
أفراد من منطقتنا انخرطوا في صفوف الجبهة، والكثير في الصف المقابل. لكننا الآن نعيش الواقع بتآزر، تجاوزنا ايدلوجيا الحرب تلك. صرنا متآلفين. حتى أننا لا نتحدث عن الحزبية إلا أيام الانتخابات. ولأن الانتخابات تأخرت كثيرًا فلقد فرضت الحزبية نفسها، مؤخرًا، كأحد أجندات عزاء الموتى.
قبل أسابيع، ذهبت لعزاء أحد قيادات الجبهة، ماتت شقيقته لأمه، كان التآلف حاضرًا. نُسي التاريخ ذاك وكنا في حاضر تنظر فيه المليشيا إلى أرواحنا بتساوٍ، ونظراتنا تتساوى تجاه مليشيا الحوثي.
ما أعجبني هو روح الألفة بين من احتربوا في الثمانينيات. وبين توحدهم حول البلاد.
شخصيًا، أحب المؤانسة التي تحضر فيها الكتب. وهذا الرجل مثقف كبير لأول مرة أصادفه. سمعته يقول أنه يقرأ في “مجتمع القرود”، بدت مثل تورية للمليشيا وأفرادها المشتتين في الجبال، لكنه كان جادًا ومبتسمًا.
وأنا أعرف أن القرود ظمأى هذه الأيام، تنزل من قمم الجبال إلى بعض البرك المبنية بأطراف الوديان، أطفالًا اصطادوا قرودًا قبل يومين. هذه لا تصلح مداخلة في عزاء، ثم إني أصغر الحاضرين.
عزاءاتنا صارت تتشابه، تحدث فيها المشادات حول أوضاع البلاد. يتحدث البعض عن الفلكيين، نخرج كما دخلنا. حتى الموعظة صارت رسالة على واتس آب.
وهذا العزاء استفدت منه.. لقد دونت برأسي كتابًا تحدث عنه الرجل “الأم” ماكسيم جوركي.
وكلما طرقنا موضوعًا، تزداد غرابتي. ليس لأننا في عزاء وحسب. بل لاعتقادات كانت في رأسي. لقد تحدث الرجل عن برنامج “عرب آيدول”، كنت أعتقد أن أفكاره ستجعله بطرف المهملين للتصويت للفنان اليمني عمار محمد، على أقل تقدير. باعتبار أن الأخير قادم من بيئة الإنشاد. وأنه قريب من حزب الإصلاح. وأن الرجل يساري.
قال بأنه صوّت لعمار، وحضنا على ذلك.
قال: لنبحث عن منفذ للهروب من الواقع.
وقال جملة مازالت تطن في أذني: نحن بحاجة إلى فرح، من حقنا أن ننتزعه من العالم انتزاعًا.
***
اليمني يبحث عن ما يلفت العالم إلى صلصال هويته.
هكذا، يجب على اليمني أن يكون: يتجاوز كل مشاكله، يتغلب على الايديولوجيا، ليظهر أصالته باعتزاز وبدون زيف.
لا أعرف، كيف تعامل دراويش الحوثي مع حدث المسابقة الفنية؟
لكن ما لاحظته محاولتهم لاستخدام اليسار، وأنهم يملؤون الواقع بالزيف المحض والكذب لصناعة القبول لدى المجتمع الدولي.
في مطلع 2015، قام حوثيون بإعلان “التيار اليساري الحر”، محاولة بائسة لإيهام العالم بأن اليسار منهم وأنهم يمشون ببرنامجه للارتقاء بالكادحين. كانت الشوارب تلتمع وكذلك الوجوه المدهونة بزيت الدعم الجديد.
المقالح، البخيتي، قطران، أبرز أسماء التيار الجديد. كانوا منضوييين تحت مظلة الحزب الاشتراكي، بعض الناشطين، مثل حاشد، بعض الصحفيين مثل الدكاك، ما يزالون يرطنون بالمفاهيم المركبة “صاروا هناك” يمتدحون المليشيا ويكتبون المقالات المحشوة بالمصطلحات مثل: البترودولار! لاستعراض ثقافتهم.. لم يعرفوا أنها ذاتها “الصهيوامريكي” التي ابتدعها يساري المليشيا منذ زمن.
عليهم أن يخدعوا المليشيا بألفاظ مثل “التروتسكية”.
بما أننا نشاكل بين الوقائع التي حدثت في عصر الإمامين يحيى وأحمد، وبين ما يحصل الآن في عهد الحوثي. وأننا الآن في جزئية “محاولة خديعة اليسار”. فلا بأس. لهذا المشهد شبيه أيضًا، رواه الروسي “ج. انكارين” في كتابه “مذكرات دبلوماسي في اليمن”. قال في معرض حديثه حول لقاء سيف الاسلام بن يحيى حميد الدين:
«نضطر أن نعيد له رواية وجهة نظرنا حول الأحداث في الصين وجوهر الخلاف مع التروتسكية “لم يعرف هذه الكلمة بالطبع”.
وقال:
«وفي نهاية حديث سيف الاسلام يقوم بمحاولة خطرة لمد جسر بين وجهتي نظرنا ويقرر قرابة الاسلام مع البلشفية والقرآن مع برنامج الحزب البلشفي».
أبطال هزيمة الانسحاب، الذين تغنوا بالانتصار على السعودية في الثلاثينيات، اكتشفوا أن السعودية قد تمركزت في ميناء الحديدة وميدي. ووقع الإمام يحيى اتفاقية الطائف. أباحوا صنعاء للمقاتلين عقب ثورة الدستور عام 1948، وهدموا المنازل وحاولوا تقريب وجهتي النظر بين الإسلام والبلشفية.
هم ذاتهم الذين يتغنون بالانتصار اليوم في 2017، فيما قوات التحالف تقترب من الحديدة، وهم من ذهبوا إلى ظهران الجنوب وسيوقعون اتفاقية مذلة في نهاية المطاف، وهم الذين أباحوا صنعاء في أواخر 2014 عقب صياغة الدستور، وهم الذين يهدمون المنازل ومازالوا حتى اليوم، وهم الذين حاولوا ارتداء اليسار..
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.